فصل: فَصْلٌ (في تَرْجِيحِ الرُّخَصِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***


فَصْلٌ ‏[‏إِطْلَاقُ الرُّخْصَةِ عَلَى مَا اسْتُثْنِيَ مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مُطْلَقًا‏]‏

وَقَدْ تُطْلَقُ الرُّخْصَةُ عَلَى مَا اسْتُثْنِيَ مِنْ أَصْلٍ كُلِّيٍّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ مُطْلَقًا، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِكَوْنِهِ لِعُذْرٍ شَاقٍّ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَرْضُ وَالْقِرَاضُ وَالْمُسَاقَاةُ وَرَدُّ الصَّاعِ مِنَ الطَّعَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُصَرَّاةِ، وَبَيْعُ الْعَرِيَّةِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا، وَضَرْبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ‏:‏ «نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»، «وَأَرْخَصَ فِي السَّلَمِ»، وَكُلُّ هَذَا مُسْتَنَدٌ إِلَى أَصْلِ الْحَاجِيَّاتِ؛ فَقَدِ اشْتَرَكَتْ مَعَ الرُّخْصَةِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُهَا فِي التَّسْمِيَةِ، كَمَا جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُهَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَصْلٍ مَمْنُوعٍ، وَهُنَا أَيْضًا يَدْخُلُ مَا تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ جُلُوسًا اتِّبَاعًا لِلْإِمَامِ الْمَعْذُورِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ الْمَشْرُوعَةِ بِالْإِمَامِ كَذَلِكَ أَيْضًا، لَكِنَّ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ تُسْتَمَدَّانِ مِنْ أَصْلِ التَّكْمِيلَاتِ لَا مِنْ أَصْلِ الْحَاجِيَّاتِ؛ فَيُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الرُّخْصَةِ وَإِنْ لَمْ تَجْتَمِعْ مَعَهَا فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الرُّخْصَةِ وَإِنِ اسْتُمِدَّتْ مِنْ أَصْلِ الضَّرُورِيَّاتِ، كَالْمُصَلِّي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ؛ فَإِنَّ الرُّخْصَةَ فِي حَقِّهِ ضَرُورِيَّةٌ لَا حَاجِيَّةٌ، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَاجِيَّةً إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَكِنْ بِمَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُ فِيهِ أَوْ بِسَبَبِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏إِطْلَاقُ الرُّخْصَةِ عَلَى مَا وُضِعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ التَّكَالِيفِ الْغَلِيظَةِ‏]‏

وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الرُّخْصَةِ عَلَى مَا وُضِعَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ التَّكَالِيفِ الْغَلِيظَةِ، وَالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 286‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

فَإِنَّ الرُّخْصَةَ فِي اللُّغَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنَى اللِّينِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيث‏:‏ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَنَعَ شَيْئًا تَرَخَّصَ فِيهِ»، وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْآخَر‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ»، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ فَكَانَ مَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ السَّمْحَةِ مِنَ الْمُسَامَحَةِ وَاللِّينِ رُخْصَةً، بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا حَمَلَتْهُ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ مِنَ الْعَزَائِمِ الشَّاقَّةِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏إِطْلَاقُ الرُّخْصَةِ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْمَشْرُوعَاتِ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ مُطْلَقًا‏]‏

وَتُطْلَقُ الرُّخْصَةُ أَيْضًا عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْمَشْرُوعَاتِ تَوْسِعَةً عَلَى الْعِبَادِ مُطْلَقًا، مِمَّا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى نَيْلِ حُظُوظِهِمْ، وَقَضَاءِ أَوْطَارِهِمْ؛ فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ الْأُولَى هِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذَّارِيَات‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏

وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ مَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ مِلْكُ اللَّهِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ؛ فَحَقٌّ عَلَيْهِمُ التَّوَجُّهُ إِلَيْهِ، وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي عِبَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُمْ عِبَادُهُ وَلَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ لَدَيْهِ وَلَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا وَهَبَ لَهُمْ حَظًّا يَنَالُونَهُ، فَذَلِكَ كَالرُّخْصَةِ لَهُمْ لِأَنَّهُ تَوَجُّهٌ إِلَى غَيْرِ الْمَعْبُودِ، وَاعْتِنَاءٌ بِغَيْرِ مَا اقْتَضَتْهُ الْعُبُودِيَّةُ‏.‏

فَالْعَزِيمَةُ فِي هَذَا الْوَجْهِ هُوَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، كَانَتِ الْأَوَامِرُ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَالنَّوَاهِي كَرَاهَةً أَوْ تَحْرِيمًا، وَتَرْكُ كُلِّ مَا يَشْغَلُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَ الْآمِرِ مَقْصُودٌ أَنْ يَمْتَثِلَ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالْإِذْنَ فِي نَيْلِ الْحَظِّ الْمَلْحُوظِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ رُخْصَةٌ، فَيَدْخُلُ فِي الرُّخْصَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كُلُّ مَا كَانَ تَخْفِيفًا وَتَوْسِعَةً عَلَى الْمُكَلَّفِ، فَالْعَزَائِمُ حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَالرُّخَصُ حَظُّ الْعِبَادِ مِنْ لُطْفِ اللَّهِ، فَتَشْتَرِكُ الْمُبَاحَاتُ مَعَ الرُّخَصِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ مِنْ حَيْثُ كَانَا مَعًا تَوْسِعَةً عَلَى الْعَبْدِ وَرَفْعَ حَرَجٍ عَنْهُ، وَإِثْبَاتًا لِحَظِّهِ، وَتَصِيرُ الْمُبَاحَاتُ- عِنْدَ هَذَا النَّظَرِ- تَتَعَارَضُ مَعَ الْمَنْدُوبَاتِ عَلَى الْأَوْقَاتِ، فَيُؤْثِرُ حَظَّهُ فِي الْأُخْرَى عَلَى حَظِّهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ يُؤْثِرُ حَقَّ رَبِّهِ عَلَى حَظِّ نَفْسِهِ؛ فَيَكُونُ رَافِعًا لِلْمُبَاحِ مِنْ عَمَلِهِ رَأْسًا أَوْ آخِذًا لَهُ حَقًّا لِرَبِّهِ، فَيَصِيرُ حَظُّهُ مُنْدَرِجًا تَابِعًا لِحَقِّ اللَّهِ، وَحَقُّ اللَّهِ هُوَ الْمُقَدَّمُ وَالْمَقْصُودُ؛ فَإِنَّ ‏[‏عَلَى‏]‏ الْعَبْدِ بَذْلَ الْمَجْهُودِ، وَالرَّبُّ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ‏.‏

وَهَذَا الْوَجْهُ يَعْتَبِرُهُ الْأَوْلِيَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ، وَيَعْتَبِرُهُ أَيْضًا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ رَقَى عَنِ الْأَحْوَالِ، وَعَلَيْهِ يُرَبُّونَ التَّلَامِيذَ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ مَذَاهِبِهِمُ الْأَخْذَ بِعَزَائِمِ الْعِلْمِ، وَاجْتِنَابَ الرُّخَصِ جُمْلَةً، حَتَّى آلَ الْحَالُ بِهِمْ أَنْ عَدُّوا أَصْلَ الْحَاجِيَّاتِ كُلَّهَا أَوْ جُلَّهَا مِنَ الرُّخَصِ، وَهُوَ مَا يَرْجِعُ إِلَى حَظِّ الْعَبْدِ مِنْهَا حَسْبَمَا بَانَ لَكَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ الْأَخِيرِ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الَّذِي ذَهَبُوا إِلَيْهِ تَقْرِيرٌ فِي هَذَا النَّوْعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْإِطْلَاقَاتُ مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِبَعْضِ النَّاسِ وَمَا هُوَ عَامٌّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ‏]‏

وَلَمَّا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتُ الْأَرْبَعَةُ، ظَهَرَ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ خَاصٌّ بِبَعْضِ النَّاسِ، وَمَا هُوَ عَامٌّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ؛ الرُّخْصَةُ فَأَمَّا الْعَامُّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ فَذَلِكَ الْإِطْلَاقُ الْأَوَّلُ، وَعَلَيْهِ يَقَعُ التَّفْرِيعُ فِي هَذَا النَّوْعِ، وَأَمَّا الْإِطْلَاقُ الثَّانِي فَلَا كَلَامَ عَلَيْهِ هُنَا؛ إِذْ لَا تَفْرِيعَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ إِطْلَاقٌ شَرْعِيٌّ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ؛ وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلَمَّا كَانَ خَاصًّا بِقَوْمٍ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ عَلَى الْخُصُوصِ، إِلَّا أَنَّ التَّفْرِيعَ عَلَى الْأَوَّلِ يَتَبَيَّنُ بِهِ التَّفْرِيعُ عَلَيْهِ؛ فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَفْرِيعٍ خَاصٍّ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ ‏[‏حُكْمُ الرُّخْصَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ رُخْصَةٌ‏]‏

حُكْمُ الرُّخْصَةِ الْإِبَاحَةُ مُطْلَقًا مِنْ حَيْثُ هِيَ رُخْصَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ مَوَارِدُ النُّصُوصِ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 173‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 101‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ‏}‏ الْآيَةَ إِلَى آخِرِهَا ‏[‏النَّحْل‏:‏ 106‏]‏‏.‏

وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنَ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ مُجَرَّدًا لِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 173‏]‏، وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 3‏]‏، وَلَمْ يَرِدْ فِي جَمِيعِهَا أَمْرٌ يَقْتَضِي الْإِقْدَامَ عَلَى الرُّخْصَةِ، بَلْ إِنَّمَا أَتَى بِمَا يَنْفِي الْمُتَوَقَّعَ فِي تَرْكِ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ، وَهُوَ الْإِثْمُ وَالْمُؤَاخَذَةُ عَلَى حَدِّ مَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمُبَاحَاتِ بِحَقِّ الْأَصْلِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 236‏]‏‏.‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 198‏]‏‏.‏

‏{‏وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 235‏]‏‏.‏

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُصَرِّحَةِ بِمُجَرَّدِ رَفْعِ الْجُنَاحِ، وَبِجَوَازِ الْإِقْدَامِ خَاصَّةً‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنَّا الْمُقْصِرُ وَمِنَّا الْمُتِمُّ، وَلَا يَعِيبُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ»‏.‏

وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الرُّخْصَةَ أَصْلُهَا التَّخْفِيفُ عَنِ الْمُكَلَّفِ وَرَفْعُ الْحَرَجِ عَنْهُ؛ حَتَّى يَكُونَ مِنْ ثِقَلِ التَّكْلِيفِ فِي سَعَةٍ وَاخْتِيَارٍ بَيْنَ الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ وَالْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ، وَهَذَا أَصْلُهُ الْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 29‏]‏‏.‏

‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 32‏]‏‏.‏

‏{‏مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ‏}‏ ‏[‏النَّازِعَات‏:‏ 33‏]‏‏.‏

بَعْدَ تَقْرِيرِ نِعَمٍ كَثِيرَةٍ‏.‏

وَأَصْلُ الرُّخْصَةِ السُّهُولَةُ، وَمَادَّةُ ‏[‏رخ ص‏]‏ لِلسُّهُولَةِ وَاللِّينِ كَقَوْلِهِمْ‏:‏ شَيْءٌ رَخْصٌ‏:‏ بَيِّنُ الرُّخُوصَةِ، وَمِنْهُ الرُّخْصُ ضِدُّ الْغَلَاءِ، وَرَخَّصَ لَهُ فِي الْأَمْرِ فَتَرَخَّصَ هُوَ فِيهِ إِذَا لَمْ يَسْتَقْصِ لَهُ فِيهِ، فَمَالَ هُوَ إِلَى ذَلِكَ، وَهَكَذَا سَائِرُ اسْتِعْمَالِ الْمَادَّةِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ إِنَّهُ لَوْ كَانَتِ الرُّخَصُ مَأْمُورًا بِهَا نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا لَكَانَتْ عَزَائِمَ لَا رُخَصًا، وَالْحَالُ بِضِدِّ ذَلِكَ؛ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْحَتْمُ وَاللَّازِمُ الَّذِي لَا خِيرَةَ فِيهِ، وَالْمَنْدُوبُ كَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ مُطْلَقُ الْأَمْرِ، وَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْمَنْدُوبَات‏:‏ إِنَّهَا شُرِعَتْ لِلتَّخْفِيفِ وَالتَّسْهِيلِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَأْمُورٌ بِهَا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ ثَبَتَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالرُّخْصَةِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ، وَذَلِكَ يُبَيِّنُ أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَكُونُ مَأْمُورًا بِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ رُخْصَةٌ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا مُعْتَرَضٌ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَقْصُودِ الْمَسْأَلَةِ؛ إِذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ رَفْعِ الْجُنَاحِ وَالْإِثْمِ عَنِ الْفَاعِلِ لِلشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُبَاحًا؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، أَمَّا أَوَّلًا؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 158‏]‏، وَهُمَا مِمَّا يَجِبُ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 203‏]‏، وَالتَّأَخُّرُ مَطْلُوبٌ طَلَبَ النَّدْبِ، وَصَاحِبُهُ أَفْضَلُ عَمَلًا مِنَ الْمُتَعَجِّلِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي فِي هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

وَلَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ نَزَلَتْ عَلَى أَسْبَابٍ، حَيْثُ تَوَهَّمُوا الْجُنَاحَ كَمَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ مَوَاضِعُ الْإِبَاحَةِ أَيْضًا نَزَلَتْ عَلَى أَسْبَابٍ، وَهِيَ تَوَهُّمُ الْجُنَاحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 198‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 61‏]‏ إِلَى آخِرِهَا‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ‏}‏ ‏[‏النُّور‏:‏ 61‏]‏‏.‏

جَمِيعُ هَذَا وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مُتَوَهَّمٌ فِيهِ الْجُنَاحُ وَالْحَرَجُ، وَإِذَا اسْتَوَى الْمَوْضُوعَانِ لَمْ يَكُنْ فِي النَّصِّ عَلَى رَفْعِ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ وَالْجُنَاحِ دَلَالَةٌ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ حُكْمُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ وَدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ نَصُّوا عَلَى رُخَصٍ مَأْمُورٍ بِهَا، فَالْمُضْطَرُّ إِذَا خَافَ الْهَلَاكَ وَجَبَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ الْغَاذِيَةِ، وَنَصُّوا عَلَى طَلَبِ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، وَأَنَّهُ سُنَّةٌ، وَقِيلَ فِي قَصْرِ الْمُسَافِر‏:‏ إِنَّهُ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ»، وَقَالَ رَبُّنَا تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 185‏]‏ إِلَى كَثِيرٍ مِنْ ذَلِكَ؛ فَلَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ حُكْمَ الرُّخَصِ الْإِبَاحَةُ دُونَ التَّفْصِيلِ‏.‏

فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّل‏:‏ إِنَّهُ لَا يُشَكُّ أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ وَالْإِثْمِ فِي وَضْعِ اللِّسَانِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ الْقَرَائِنِ يَقْتَضِي الْإِذْنَ فِي التَّنَاوُلِ وَالِاسْتِعْمَالِ، فَإِذَا خُلِّينَا وَاللَّفْظَ كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَعْنَى الْإِذْنِ فِي الْفِعْلِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَإِنْ كَانَ لِرَفْعِ الْجُنَاحِ وَالْحَرَجِ سَبَبٌ خَاصٌّ فَلَنَا أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى مُقْتَضَى اللَّفْظِ لَا عَلَى خُصُوصِ السَّبَبِ؛ فَقَدْ يُتَوَهَّمُ فِيمَا هُوَ مُبَاحٌ شَرْعًا أَنَّ فِيهِ إِثْمًا بِنَاءً عَلَى اسْتِقْرَارِ عَادَةٍ تَقَدَّمَتْ أَوْ رَأْيٍ عَرَضَ كَمَا تَوَهَّمَ بَعْضُهُمُ الْإِثْمَ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ بِالثِّيَابِ، وَفِي بَعْضِ الْمَأْكُولَاتِ حَتَّى نَزَلَ‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 32‏]‏، وَكَذَلِكَ فِي الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ الْآبَاءِ، وَالْأُمَّهَاتِ، وَسَائِرِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْآيَةِ، وَفِي التَّعْرِيضِ بِالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 158‏]‏ يُعْطِي مَعْنَى الْإِذْنِ؛ وَأَمَّا كَوْنُهُ وَاجِبًا فَمَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 158‏]‏ أَوْ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ؛ فَيَكُونُ التَّنْبِيهُ هُنَا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِذْنِ الَّذِي يَلْزَمُ الْوَاجِبَ مِنْ جِهَةِ مُجَرَّدِ الْإِقْدَامِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ جَوَازِ التَّرْكِ أَوْ عَدَمِهِ‏.‏

وَلَنَا أَنْ نَحْمِلَهُ عَلَى خُصُوصِ السَّبَبِ، وَيَكُونُ مِثْلُ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ ‏{‏مِنْ شَعَائِرِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 158‏]‏ قَرِينَةً صَارِفَةً لِلَّفْظِ عَنْ مُقْتَضَاهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ؛ أَمَّا مَا لَهُ سَبَبٌ مِمَّا هُوَ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ فَيَسْتَوِي مَعَ مَا لَا سَبَبَ لَهُ فِي مَعْنَى الْإِذْنِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَجْرِي الْقَوْلُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَسَائِرِ مَا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى‏.‏

وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالرُّخْصَةِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَرْجِعَ الْوُجُوبُ أَوِ النَّدْبُ إِلَى عَزِيمَةٍ أَصْلِيَّةٍ، لَا إِلَى الرُّخَصِ بِعَيْنِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُضْطَرَّ الَّذِي لَا يَجِدُ مِنَ الْحَلَالِ مَا يَرُدُّ بِهِ نَفْسَهُ، أُرْخِصَ لَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ قَصْدًا لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ وَرَدًّا لِنَفْسِهِ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ؛ فَإِنْ خَافَ التَّلَفَ وَأَمْكَنَهُ تَلَافِي نَفْسِهِ بِأَكْلِهَا كَانَ مَأْمُورًا بِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏ كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِإِحْيَاءِ غَيْرِهِ مِنْ مِثْلِهَا إِذَا أَمْكَنَهُ تَلَافِيهِ، بَلْ هُوَ مِثْلُ مَنْ صَادَفَ شَفَا جُرُفٍ يَخَافُ الْوُقُوعَ فِيهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ الزَّوَالَ عَنْهُ مَطْلُوبٌ، وَأَنَّ إِيقَاعَ نَفْسِهِ فِيهِ مَمْنُوعٌ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى رُخْصَةً؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى أَصْلٍ كُلِّيٍّ ابْتِدَائِيٍّ، فَكَذَلِكَ مَنْ خَافَ التَّلَفَ إِنْ تَرَكَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ هُوَ مَأْمُورٌ بِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ، فَلَا يُسَمَّى رُخْصَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَإِنْ سُمِّيَ رُخْصَةً مِنْ جِهَةِ رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ نَفْسِهِ‏.‏

فَالْحَاصِلُ أَنَّ إِحْيَاءَ النَّفْسِ عَلَى الْجُمْلَةِ مَطْلُوبٌ طَلَبَ الْعَزِيمَةِ، وَهَذَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرُّخْصَةَ مَأْذُونٌ فِيهَا لِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَهَذَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِهَا؛ فَلَمْ تَتَّحِدِ الْجِهَتَانِ، وَإِذَا تَعَدَّدَتِ الْجِهَاتُ زَالَ التَّدَافُعُ، وَذَهَبَ التَّنَافِي، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ‏.‏

وَأَمَّا جَمْعُ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَنَحْوُهُ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عِنْدَ الْقَائِلِ بِالطَّلَبِ رُخْصَةٌ، بَلْ هُوَ عَزِيمَةٌ مُتَعَبَّدٌ بِهَا عِنْدَهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ- رِضَى اللَّهِ عَنْهَا- فِي الْقَصْر‏:‏ «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ» الْحَدِيثَ، وَتَعْلِيلُ الْقَصْرِ بِالْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رُخْصَةٌ؛ إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا كَانَ رَفْعًا لِلْحَرَجِ يُسَمَّى رُخْصَةً عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ الْعَامِّ، وَإِلَّا فَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا رُخْصَةً لِخِفَّتِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَوْ يَكُونَ شَرْعُ الصَّلَاةِ خَمْسًا رُخْصَةً؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ فِي السَّمَاءِ خَمْسِينَ، وَيَكُونُ الْقَرْضُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالْقِرَاضُ وَضَرْبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ رُخْصَةً، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِبَاحَةِ فَلَيْسَ بِرُخْصَةٍ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخْصُهُ» فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَالْمُبَاحَاتُ مِنْهَا مَا هُوَ مَحْبُوبٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُبْغَضٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْأَحْكَامِ التَّكْلِيفِيَّةِ فَلَا تَنَافِيَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 185‏]‏، وَمَا كَانَ نَحْوَهُ؛ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ الرُّخَصِ الْمُبَاحَةِ تَيْسِيرُ وَرَفْعُ حَرَجٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ ‏[‏الرُّخْصَةُ إِضَافِيَّةٌ لَا أَصْلِيَّةٌ‏]‏

أَنَّ الرُّخْصَةَ إِضَافِيَّةٌ لَا أَصْلِيَّةٌ، بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ فِي الْأَخْذِ بِهَا فَقِيهُ نَفْسِهِ مَا لَمْ يُحَدَّ فِيهَا حَدٌّ شَرْعِيٌّ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ إِنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ الْمَشَقَّةُ، وَالْمَشَاقُّ تَخْتَلِفُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَبِحَسَبَ الْأَحْوَالِ، وَبِحَسَبِ قُوَّةِ الْعَزَائِمِ وَضَعْفِهَا، وَبِحَسَبَ الْأَزْمَانِ، وَبِحَسَبِ الْأَعْمَالِ، فَلَيْسَ سَفَرُ الْإِنْسَانِ رَاكِبًا مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فِي رِفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ، وَأَرْضٍ مَأْمُونَةٍ، وَعَلَى بُطْءٍ وَفِي زَمَنِ الشِّتَاءِ، وَقِصَرِ الْأَيَّامِ؛ كَالسَّفَرِ عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ، وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى شَدَائِدِ السَّفَرِ وَمَشَقَّاتِهِ يَخْتَلِفُ؛ فَرُبَّ رَجُلٍ جَلْدٍ ضَرِيَ عَلَى قَطْعِ الْمَهَامِهِ، حَتَّى صَارَ لَهُ ذَلِكَ عَادَةً لَا يَحْرَجُ بِهَا، وَلَا يَتَأَلَّمُ بِسَبَبِهَا، يَقْوَى عَلَى عِبَادَاتِهِ، وَعَلَى أَدَائِهَا عَلَى كَمَالِهَا، وَفِي أَوْقَاتِهَا، وَرَبُّ رَجُلٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَيَخْتَلِفُ أَيْضًا بِاخْتِلَافِ الْجُبْنِ وَالشَّجَاعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَى ضَبْطِهَا، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَيْسَ لِلْمَشَقَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي التَّخْفِيفَاتِ ضَابِطٌ مَخْصُوصٌ، وَلَا حَدٌّ مَحْدُودٌ يَطَّرِدُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَلِذَلِكَ أَقَامَ الشَّرْعُ فِي جُمْلَةٍ مِنْهَا السَّبَبَ مَقَامَ الْعِلَّةِ؛ فَاعْتَبَرَ السَّفَرَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَظَانِّ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ، وَتَرَكَ كُلَّ مُكَلَّفٍ عَلَى مَا يَجِدُ، أَيْ‏:‏ إِنْ كَانَ قَصْرٌ أَوْ فِطْرٌ فَفِي السَّفَرِ، وَتَرَكَ كَثِيرًا مِنْهَا مَوْكُولًا إِلَى الِاجْتِهَادِ كَالْمَرَضِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَقْوَى فِي مَرَضِهِ عَلَى مَا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ الْآخَرُ، فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ مَشْرُوعَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَهَذَا لَا مِرْيَةَ فِيهِ؛ فَإِذًا لَيْسَتْ أَسْبَابُ الرُّخَصِ بِدَاخِلَةٍ تَحْتَ قَانُونٍ أَصْلِيٍّ، وَلَا ضَابِطٍ مَأْخُوذٍ بِالْيَدِ، بَلْ هُوَ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُخَاطَبٍ فِي نَفْسِهِ؛ فَمَنْ كَانَ مِنَ الْمُضْطَرِّينَ مُعْتَادًا لِلصَّبْرِ عَلَى الْجُوعِ، وَلَا تَخْتَلُّ حَالُهُ بِسَبَبِهِ كَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ، وَكَمَا ذُكِرَ عَنِ الْأَوْلِيَاءِ؛ فَلَيْسَتْ إِبَاحَةُ الْمَيْتَةِ لَهُ عَلَى وِزَانِ مَنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، هَذَا وَجْهٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ إِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْعَامِلِ الْمُكَلَّفِ حَامِلٌ عَلَى الْعَمَلِ حَتَّى يَخِفَّ عَلَيْهِ مَا يَثْقُلُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ، وَحَسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ أَخْبَارُ الْمُحِبِّينَ الَّذِينَ صَابَرُوا الشَّدَائِدَ، وَحَمَلُوا أَعْبَاءَ الْمَشَقَّاتِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، مِنْ إِتْلَافِ مُهَجِهِمْ إِلَى مَا دُونَ ذَلِكَ، وَطَالَتْ عَلَيْهِمُ الْآمَادُ، وَهُمْ عَلَى أَوَّلِ أَعْمَالِهِمْ حِرْصًا عَلَيْهَا، وَاغْتِنَامًا لَهَا؛ طَمَعًا فِي رِضَى الْمَحْبُوبِينَ، وَاعْتَرَفُوا بِأَنَّ تِلْكَ الشَّدَائِدَ وَالْمَشَاقَّ سَهْلَةٌ عَلَيْهِمْ، بَلْ لَذَّةٌ لَهُمْ وَنَعِيمٌ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَأَلَمٌ أَلِيمٌ، فَهَذَا مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمَشَاقِّ تَخْتَلِفُ بِالنِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ، وَذَلِكَ يَقْضِي بِأَنَّ الْحُكْمَ الْمَبْنِيَّ عَلَيْهَا يَخْتَلِفُ بِالنِّسَبِ وَالْإِضَافَاتِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا مِنَ الشَّرْعِ؛ كَالَّذِي جَاءَ فِي وِصَالِ الصِّيَامِ، وَقَطْعِ الْأَزْمَانِ فِي الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ بِالرِّفْقِ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ، ثُمَّ فَعَلَهُ مِنْ بَعْدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمًا بِأَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ وَهُوَ الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ مَفْقُودٌ فِي حَقِّهِمْ، وَلِذَلِكَ أَخْبَرُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ مَعَ وِصَالِهِمُ الصِّيَامَ لَا يَصُدُّهُمْ ذَلِكَ عَنْ حَوَائِجِهِمْ، وَيَقْطَعُهُمْ عَنْ سُلُوكِ طَرِيقِهِمْ؛ فَلَا حَرَجَ فِي حَقِّهِمْ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ فِي حَقِّ مَنْ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ حَتَّى يَصُدَّهُ عَنْ ضَرُورَاتِهِ وَحَاجَاتِهِ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ سَبَبِ الرُّخْصَةِ إِضَافِيًّا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ الرُّخْصَةُ كَذَلِكَ؛، لَكِنْ هَذَا الْوَجْهُ اسْتِدْلَالٌ بِجِنْسِ الْمَشَقَّةِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهَا، وَهُوَ غَيْرُ مُنْتَهَضٍ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ مُنْضَمًّا إِلَى مَا قَبْلَهُ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمَجْمُوعِ صَحِيحٌ حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي فَصْلِ الْعُمُومِ فِي كِتَابِ الْأَدِلَّةِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الْحَرَجُ الْمُعْتَبَرُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخْصَةِ؛ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا فِي الْمُكَلَّفِ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ بِسَبَبِهِ عَلَى التَّفَرُّغِ لِعَادَةٍ وَلَا لِعِبَادَةٍ أَوْ لَا يُمْكِنُ لَهُ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ يَكُونَ غَيْرَ مُؤَثِّرٍ، بَلْ يَكُونُ مَغْلُوبَ صَبْرِهِ وَمَهْزُومَ عَزْمِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ مَحَلُّ الرُّخْصَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يُطْلَبُ فِيهِ الْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا عَلَى حَسَبِ تَمَامِ الْقَاطِعِ عَنِ الْعَمَلِ أَوْ عَدَمِ تَمَامِهِ، وَإِذَا كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا؛ فَلَا تَكُونُ رُخْصَةً كَمَا تَقَدَّمَ بَلْ عَزِيمَةً، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَلَا حَرَجَ فِي الْعَمَلِ وَلَا مَشَقَّةَ، إِلَّا ‏[‏مَا‏]‏ فِي الْأَعْمَالِ الْمُعْتَادَةِ، وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَهُ حَرَجًا يَنْتَهِضُ عِلَّةً لِلرُّخْصَةِ، وَإِذَا انْتَفَى مَحَلُّ الرُّخْصَةِ فِي الْقِسْمَيْنِ وَلَا ثَالِثَ لَهُمَا؛ ارْتَفَعَتِ الرُّخْصَةُ مِنْ أَصْلِهَا، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى وُجُودِهَا مَعْلُومٌ، هَذَا خَلْفٌ؛ فَمَا انْبَنَى عَلَيْهِ مِثْلُهُ‏.‏

فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مُنْقَلِبٌ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الرُّخَصُ كُلُّهَا مَأْمُورًا بِهَا وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا؛ إِذْ مَا مِنْ رُخْصَةٍ تُفْرَضُ إِلَّا وَهَذَا الْبَحْثُ جَارٍ فِيهَا، فَإِذَا كَانَ مُشْتَرِكَ الْإِلْزَامِ لَمْ يَنْهَضْ دَلِيلًا، وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي الْإِلْزَامَاتِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ إِنَّهُ إِنْ سَلَّمَ؛ فَلَا يَلْزَمُ السُّؤَالُ لِأَمْرَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ إِنَّ انْحِصَارَ الرُّخَصِ فِي الْقِسْمَيْنِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ؛ لِإِمْكَانِ قِسْمٍ ثَالِثٍ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ الْحَرَجُ مُؤَثِّرًا فِي الْعَمَلِ، وَلَا يَكُونَ الْمُكَلَّفُ رَخِيَّ الْبَالِ عِنْدَهُ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْمَرَضِ أَوِ السَّفَرِ حَرَجًا فِي الصَّوْمِ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُهُ عَنْ سَفَرِهِ، وَلَا يُخِلُّ بِهِ فِي مَرَضِهِ، وَلَا يُؤَدِّيهِ إِلَى الْإِخْلَالِ بِالْعَمَلِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا يَعْرِضُ مِنَ الرُّخَصِ، جَارٍ فِيهِ هَذَا التَّقْسِيمُ، وَالثَّالِثُ‏:‏ هُوَ مَحَلُّ الْإِبَاحَةِ؛ إِذْ لَا جَاذَبَ ‏[‏لَهُ‏]‏ يَجْذِبُهُ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ أَنَّ طَلَبَ الشَّرْعِ لِلتَّخْفِيفِ حَيْثُ طَلَبُهُ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ رُخْصَةً، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْعَزِيمَةِ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا أَوْ كَوْنِهَا تُؤَدِّي إِلَى الْإِخْلَالِ بِأَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا، فَالطَّلَبُ مِنْ حَيْثُ النَّهْيُ عَنِ الْإِخْلَالِ لَا مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ بِنَفْسِ الرُّخْصَةِ، وَلِذَلِكَ نُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ، وَمَعَ مُدَافَعَةِ الْأَخْبَثَيْنِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ فَالرُّخْصَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ مِنْ حَيْثُ هِي رُخْصَةٌ فَلَيْسَتْ بِمُرْتَفِعَةٍ مِنَ الشَّرْعِ بِإِطْلَاقٍ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ جِهَتَيِ الطَّلَبِ وَالْإِبَاحَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏الْإِبَاحَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الرُّخْصَةِ بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ لَا التَّخْيِيرِ‏]‏

الْإِبَاحَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى الرُّخْصَةِ؛ هَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْإِبَاحَةِ بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ، أَمْ مِنْ قَبِيلِ الْإِبَاحَةِ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ‏؟‏

فَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ نُصُوصِ الرُّخَصِ أَنَّهَا بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ لَا بِالْمَعْنَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 173‏]‏، وَقَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 3‏]‏؛ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُ الْفِعْلَ وَالتَّرْكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ التَّنَاوُلَ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ يَرْفَعُ الْإِثْمَ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 184‏]‏، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ فَلَهُ الْفِطْرُ، وَلَا فَلْيُفْطِرْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ، بَلْ ذَكَرَ نَفْسَ الْعُذْرِ وَأَشَارَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ أَفْطَرَ؛ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 101‏]‏ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْقَصْرُ مِنْ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ فَلَكُمْ أَنْ تَقْصُرُوا أَوْ فَإِنْ شِئْتُمْ فَاقْصُرُوا‏.‏

وَقَالَ ‏[‏تَعَالَى‏]‏ فِي الْمُكْرَه‏:‏ ‏{‏مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ‏}‏ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 106‏]‏؛ فَالتَّقْدِيرُ أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ فَلَا غَضَبَ عَلَيْهِ وَلَا عَذَابَ يَلْحَقُهُ إِنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَمْ يَقُلْ‏:‏ فَلَهُ أَنْ يَنْطِقَ أَوْ إِنْ شَاءَ فَلْيَنْطِقْ‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «أَكْذِبُ امْرَأَتِي‏؟‏ قَالَ لَهُ‏:‏ لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ‏.‏ قَالَ لَهُ‏:‏ أَفَأَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ لَا جُنَاحَ عَلَيْكَ»، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ نَعَمْ، وَلَا افْعَلْ إِنْ شِئْتَ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ غَيْرُ مُرَادٍ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، أَنَّ الْجُمْهُورَ أَوِ الْجَمِيعَ يَقُولُونَ‏:‏ مَنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ الْإِكْرَاهِ مَأْجُورٌ، وَفِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ، وَالتَّخْيِيرُ يُنَافِي تَرْجِيحَ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ عَلَى الْآخَرِ؛ فَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ وَسِوَاهَا‏.‏

وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ الَّتِي بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 223‏]‏، يُرِيدُ‏:‏ كَيْفَ شِئْتُمْ‏:‏ مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً وَعَلَى جَنْبٍ؛ فَهَذَا تَخْيِيرٌ وَاضِحٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 35‏]‏، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قِسْمِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْمُبَاحَيْنِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ مَا الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا‏؟‏

قِيلَ‏:‏ يَنْبَنِي عَلَيْهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنَّ الْعَارِضَ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنَّا إِنْ قُلْنَا‏:‏ الرُّخْصَةُ مُخَيَّرٌ فِيهَا حَقِيقَةً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ مَعَ مُقْتَضَى الْعَزِيمَةِ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا‏:‏ إِنَّهَا مُبَاحَةٌ بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ فَاعِلِهَا؛ إِذْ رَفْعُ الْحَرَجِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّخْيِيرَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَوْجُودٌ مَعَ الْوَاجِبِ‏؟‏، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْعَزِيمَةَ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْوُجُوبِ الْمُعَيَّنِ الْمَقْصُودِ شَرْعًا، فَإِذَا عَمِلَ بِهَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الْعَمَلِ بِهَا فَرْقٌ، لَكِنَّ الْعُذْرَ رَفَعَ التَّأْثِيمَ عَنِ الْمُنْتَقِلِ عَنْهَا إِنِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ الِانْتِقَالَ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا بَسْطٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ‏:‏ ‏[‏فِي التَّرْخِيصِ الْمَشْرُوعِ‏]‏

التَّرَخُّصُ الْمَشْرُوعُ ضَرْبَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ مَشَقَّةٍ لَا صَبْرَ عَلَيْهَا طَبْعًا؛ كَالْمَرَضِ الَّذِي يَعْجِزُ مَعَهُ عَنِ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِهَا مَثَلًا أَوْ عَنِ الصَّوْمِ لِفَوْتِ النَّفْسِ‏.‏

أَوْ شَرْعًا كَالصَّوْمِ الْمُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى إِتْمَامِ أَرْكَانِهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَةِ مَشَقَّةٍ بِالْمُكَلَّفِ قُدْرَةٌ عَلَى الصَّبْرِ عَلَيْهَا، وَأَمْثِلَتُهُ ظَاهِرَةٌ‏.‏

فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى حَقِّ اللَّهِ؛ فَالتَّرَخُّصُ فِيهِ مَطْلُوبٌ، وَمِنْ هُنَا جَاءَ‏:‏ «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ بِحَضْرَةِ الطَّعَامِ أَوْ وَهُوَ يُدَافِعُهُ الْأَخْبَثَانِ، وَ«إِذَا حَضَرَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَابْدَءوا بِالْعَشَاءِ» إِلَى مَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ؛ فَالتَّرَخُّصُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُلْحَقٌ بِهَذَا الْأَصْلِ، وَلَا كَلَامَ أَنَّ الرُّخْصَةَ هَاهُنَا جَارِيَةٌ مَجْرَى الْعَزَائِمِ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ بِوُجُوبِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ خَوْفَ التَّلَفِ، وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي‏:‏ فَرَاجِعٌ إِلَى حُظُوظِ الْعِبَادِ لِيَنَالُوا مِنْ رِفْقِ اللَّهِ وَتَيْسِيرِهِ بِحَظٍّ؛ إِلَّا أَنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يَخْتَصَّ بِالطَّلَبِ حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ حَالُ الْمَشَقَّةِ أَوْ عَدَمُهَا؛ كَالْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ؛ فَهَذَا أَيْضًا لَا كَلَامَ فِيهِ أَنَّهُ لَاحِقٌ بِالْعَزَائِمِ، مِنْ حَيْثُ صَارَ مَطْلُوبًا مُطْلَقًا طَلَبَ الْعَزَائِمِ حَتَّى عَدَّهُ النَّاسُ سُنَّةً لَا مُبَاحًا، لَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ رُخْصَةً؛ إِذِ الطَّلَبُ الشَّرْعِيُّ فِي الرُّخْصَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا رُخْصَةً؛ كَمَا يَقُولُهُ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ؛ فَإِذَا هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ حَيْثُ وَقَعَ عَلَيْهَا حَدُّ الرُّخْصَةِ، وَفِي حُكْمِ الْعَزِيمَةِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَطْلُوبَةً طَلَبَ الْعَزَائِمِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِالطَّلَبِ، بَلْ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ التَّخْفِيفِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ، فَلِلْمُكَلَّفِ الْأَخْذُ بِأَصْلِ الْعَزِيمَةِ، وَإِنْ تَحَمَّلَ فِي ذَلِكَ مَشَقَّةً، وَلَهُ الْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ‏.‏

وَالْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّةِ الْحُكْمِ عَلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ ظَاهِرَةٌ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا، فَإِنْ تَشَوَّفَ أَحَدٌ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ فَنَقُولُ‏:‏ أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْمَشَقَّةَ إِذَا أَدَّتْ إِلَى الْإِخْلَالِ بِأَصْلٍ كُلِّيٍّ؛ لَزِمَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ أَصْلُ الْعَزِيمَةِ؛ إِذْ قَدْ صَارَ إِكْمَالُ الْعِبَادَةِ هُنَا وَالْإِتْيَانُ بِهَا عَلَى وَجْهِهَا يُؤَدِّي إِلَى رَفْعِهَا مِنْ أَصْلِهَا، فَالْإِتْيَانُ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهَا مِنْهَا- وَهُوَ مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ- هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَإِذَا فُرِضَ اخْتِصَاصُ الرُّخْصَةِ الْمُعَيَّنَةِ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى طَلَبِ ‏[‏الْعَمَلِ بِهَا عَلَى الْخُصُوصِ، خَرَجَتْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ عَنْ أَحْكَامِ الرُّخْصَةِ فِي نَفْسِهَا، كَمَا ثَبَتَ عِنْدَ مَالِكٍ‏]‏ ‏[‏الدَّلِيلُ عَلَى‏]‏ طَلَبِ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ، فَهَذَا وَشَبَهُهُ مِمَّا اخْتُصَّ عَنْ عُمُومِ حُكْمِ الرُّخْصَةِ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّالِثُ؛ فَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَاضِحٌ فِي الْإِذْنِ فِي الرُّخْصَةِ أَوْ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ عَنْ فَاعِلِهَا‏.‏

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ‏:‏ ‏[‏فِي التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ‏]‏

حَيْثُ قِيلَ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ، وَالْأَخْذِ بِالرُّخْصَةِ؛ فَلِلتَّرْجِيحِ بَيْنَهُمَا مَجَالٌ رَحْبٌ، وَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ، فَلْنَذْكُرْ جُمَلًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ طَرَفٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ‏.‏

فَأَمَّا الْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ؛ فَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُ أَوْلَى لِأُمُورٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْعَزِيمَةَ هِيَ الْأَصْلُ الثَّابِتُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمَقْطُوعُ بِهِ، وَوُرُودُ الرُّخْصَةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ أَيْضًا؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا مَقْطُوعًا بِهِ فِي الْوُقُوعِ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُتَرَخِّصٍ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ إِلَّا فِي الْقِسْمِ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَا سِوَاهُ لَا تَحَقُّقَ فِيهِ، وَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ؛ فَإِنَّ مِقْدَارَ الْمَشَقَّةِ الْمُبَاحَ مِنْ أَجْلِهَا التَّرَخُّصُ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّفَرَ قَدِ اعْتُبِرَ فِي مَسَافَتِهِ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ فَأَكْثَرَ كَمَا اعْتُبِرَ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ، وَعِلَّةُ الْقَصْرِ الْمَشَقَّةُ، وَقَدِ اعْتُبِرَ فِيهَا أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَشَقَّةِ، وَاعْتُبِرَ فِي الْمَرَضِ أَيْضًا أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ؛ فَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَفْطَرَ لِوَجَعِ أُصْبُعِهِ، كَمَا كَانَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَرَ فِي ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَاعْتَبَرَ آخَرُونَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَجَالِ الظُّنُونِ لَا مَوْضِعَ فِيهِ لِلْقَطْعِ، وَتَتَعَارَضُ فِيهِ الظُّنُونُ، وَهُوَ مَحَلُّ التَّرَجُّحِ وَالِاحْتِيَاطِ؛ فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى هَذَا كُلِّهِ أَنْ لَا يُقْدَمَ عَلَى الرُّخْصَةِ مَعَ بَقَاءِ احْتِمَالٍ فِي السَّبَبِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ إِنَّ الْعَزِيمَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى أَصْلٍ فِي التَّكْلِيفِ كُلِّيٍّ؛ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ عَامٌّ عَلَى الْأَصَالَةِ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَالرُّخْصَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى جُزْئِيٍّ بِحَسَبِ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ مِمَّنْ لَهُ عُذْرٌ، وَبِحَسَبِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَبَعْضِ الْأَوْقَاتِ فِي أَهْلِ الْأَعْذَارِ لَا فِي كُلِّ حَالَةٍ وَلَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَا لِكُلِّ أَحَدٍ، فَهُوَ كَالْعَارِضِ الطَّارِئِ عَلَى الْكُلِّيِّ، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي مَوْضِعِهَا أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ أَمْرٌ كُلِّيٌّ وَأَمْرٌ جُزْئِيٌّ؛ فَالْكُلِّيُّ مُقَدَّمٌ لِأَنَّ الْجُزْئِيَّ يَقْتَضِي مَصْلَحَةً جُزْئِيَّةً، وَالْكُلِّيَّ يَقْتَضِي مَصْلَحَةً كُلِّيَّةً، وَلَا يَنْخَرِمُ نِظَامٌ فِي الْعَالَمِ بِانْخِرَامِ الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا قُدِّمَ اعْتِبَارُ الْمَصْلَحَةِ الْجُزْئِيَّةِ؛ فَإِنَّ الْمَصْلَحَةَ الْكُلِّيَّةَ يَنْخَرِمُ نِظَامُ كُلِّيَّتِهَا فَمَسْأَلَتُنَا كَذَلِكَ؛ إِذْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْعَزِيمَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَمْرٌ كُلِّيٌّ ثَابِتٌ عَلَيْهِ، وَالرُّخْصَةُ إِنَّمَا مَشْرُوعِيَّتُهَا أَنْ تَكُونَ جُزْئِيَّةً، وَحَيْثُ يَتَحَقَّقُ الْمُوجَبُ، وَمَا فَرَضْنَا الْكَلَامَ فِيهِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ صُورَةٍ تُفْرَضُ إِلَّا وَالْمُعَارِضُ الْكُلِّيُّ يُنَازِعُهُ؛ فَلَا يُنْجِي مِنْ طَلَبِ الْخُرُوجِ عَنِ الْعُهْدَةِ إِلَّا الرُّجُوعُ إِلَى الْكُلِّيِّ؛ وَهُوَ الْعَزِيمَةُ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ مَا جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الْأَمْرِ بِالْوُقُوفِ مَعَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُجَرَّدًا، وَالصَّبْرِ عَلَى حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وَإِنِ انْتَهَضَ مُوجِبُ الرُّخْصَةِ، وَأَدِلَّةُ ذَلِكَ لَا تَكَادُ تَنْحَصِرُ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 173‏]‏؛ فَهَذَا مَظِنَّةُ التَّخْفِيفِ، فَأَقْدَمُوا عَلَى الصَّبْرِ وَالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ؛ فَكَانَ عَاقِبَةُ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ‏}‏ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ حَيْثُ قَالَ‏:‏ ‏{‏رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 10- 23‏]‏؛ فَمَدَحَهُمْ بِالصِّدْقِ مَعَ حُصُولِ الزِّلْزَالِ الشَّدِيدِ وَالْأَحْوَالِ الشَّاقَّةِ الَّتِي بَلَغَتِ الْقُلُوبُ فِيهَا الْحَنَاجِرَ، وَقَدْ عَرَضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ أَنْ يُعْطُوا الْأَحْزَابَ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ؛ لِيَنْصَرِفُوا عَنْهُمْ فَيَخِفَّ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ؛ فَأَبَوْا مِنْ ذَلِكَ، وَتَعَزَّزُوا بِاللَّهِ وَبِالْإِسْلَامِ؛ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَدْحِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ‏.‏

وَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ الرَّأْيُ مِنَ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ- أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ- اسْتِئْلَافُهُمْ بِتَرْكِ أَخْذِ الزَّكَاةِ مِمَّنْ مَنَعَهَا مِنْهُمْ؛ حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ الْأُمَّةِ، ثُمَّ يَكُونُ مَا يَكُونُ؛ فَأَبَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ لِأُقَاتِلَنَّهُمْ حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ‏.‏

وَأَيْضًا؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 106‏]‏؛ فَأَبَاحَ التَّكَلُّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، مَعَ أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ أَفْضَلُ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهَذَا جَارٍ فِي قَاعِدَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ أَنَّ الْأَمْرَ مُسْتَحَبٌّ وَالْأَصْلَ مُسْتَتِبٌّ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، لَكِنْ يَزُولُ الِانْحِتَامُ، وَيَبْقَى تَرَتُّبُ الْأَجْرِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «إِنَّ خَيْرًا لِأَحَدِكُمْ أَنْ لَا يَسْأَلَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا» فَحَمَلَهُ الصَّحَابَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- عَلَى عُمُومِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَلْحَقَ مَنِ الْتَزَمَ هَذَا الْعَقْدَ مَشَقَّاتٌ كَثِيرَةٌ فَادِحَةٌ، وَلَمْ يَأْخُذُوهُ إِلَّا عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى اقْتَدَى بِهِمُ الْأَوْلِيَاءُ، مِنْهُمْ أَبُو حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيُّ؛ فَاتَّفَقَ لَهُ مَا ذَكَرَهُ الْقُشَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ، وَقَدْ كَانَ هَذَا النَّمَطُ مِمَّا يُنَاسِبُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ‏.‏

وَقِصَّةُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَقُوهُ، وَلَمْ يَعْتَذِرُوا لَهُ فِي مَوْطِنٍ كَانَ مَظِنَّةً لِلِاعْتِذَارِ، فَمُدِحُوا لِذَلِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ، وَمَدَحَهُمْ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ مَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، وَلَكِنْ ظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ، فَفَتَحَ لَهُمْ بَابَ الْقَبُولِ، وَسَمَّاهُمْ صَادِقِينَ؛ لِأَخْذِهِمْ بِالْعَزِيمَةِ دُونَ التَّرَخُّصِ‏.‏

وَقِصَّةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَا يَقْدِرُ عَلَى دُخُولِ مَكَّةَ إِلَّا بِجِوَارٍ، ثُمَّ تَرَكُوا الْجِوَارَ رِضًى بِجِوَارِ اللَّهِ مَعَ مَا نَالَهُمْ مِنَ الْمَكْرُوهِ، وَلَكِنْ هَانَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ فِي اللَّهِ فَصَبَرُوا إِيمَانًا بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 186‏]‏‏.‏

وَقَالَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ ‏[‏الصَّلَاةُ وَ‏]‏ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏الْأَحْقَاف‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 41‏]‏‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ‏{‏وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 284‏]‏؛ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الصَّحَابَةِ فَقِيلَ لَهُمْ‏:‏ قُولُوا‏:‏ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏.‏ فَقَالُوهَا؛ فَأَلْقَى اللَّهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 285‏]‏‏.‏

وَجَهَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ فِي جَيْشٍ إِلَى الشَّامِ قُبَيْلَ مَوْتِهِ فَتَوَقَّفَ خُرُوجُهُ بِمَرَضِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ جَاءَ مَوْتُهُ؛ فَقَالَ النَّاسُ لِأَبِي بَكْرٍ‏:‏ احْبِسْ أُسَامَةَ بِجَيْشِهِ تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَنْ حَارَبَكَ مِنَ الْمُجَاوِرِينَ لَكَ، فَقَالَ‏:‏ لَوْ لَعِبَ الْكِلَابُ بِخَلَاخِيلِ نِسَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ مَا رَدَدْتُ جَيْشًا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ سَأَلَ أُسَامَةَ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ عُمَرَ؛ فَفَعَلَ، وَخَرَجَ فَبَلَغَ الشَّامَ، وَنَكَأَ فِي الْعَدُوِّ بِهَا؛ فَقَالَتِ الرُّومُ‏:‏ إِنَّهُمْ لَمْ يَضْعُفُوا بِمَوْتِ نَبِيِّهِمْ، وَصَارَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ هَيْبَةً فِي قُلُوبِهِمْ لَهُمْ‏.‏

وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ مِمَّا يَقْتَضِي الْوُقُوفَ مَعَ الْعَزَائِمِ، وَتَرْكَ التَّرَخُّصِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ عَرَفُوا أَنَّهُمْ مُبْتَلَوْنَ، وَهُوَ‏:‏ الْوَجْهُ الرَّابِعُ‏:‏ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ الطَّارِئَةَ وَأَشْبَاهَهَا مِمَّا يَقَعُ لِلْمُكَلَّفِينَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَاقِّ، هِيَ مِمَّا يَقْصِدُهَا الشَّارِعُ فِي أَصْلِ التَّشْرِيعِ أَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي التَّشْرِيعِ إِنَّمَا هُوَ جَارٍ عَلَى تَوَسُّطِ مَجَارِي الْعَادَاتِ، وَكَوْنُهُ شَاقًّا عَلَى بَعْضِ النَّاسِ أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِمَّا هُوَ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لَهُ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ الْجُزْئِيَّةَ لَا تَخْرِمُ الْأُصُولَ الْكُلِّيَّةَ، وَإِنَّمَا تُسْتَثْنَى حَيْثُ تُسْتَثْنَى نَظَرًا إِلَى أَصْلِ الْحَاجِيَّاتِ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ، وَالْبَقَاءُ عَلَى الْأَصْلِ مِنَ الْعَزِيمَةِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ لِلْمُجْتَهِدِ، وَالْخُرُوجُ عَنْهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِسَبَبٍ قَوِيٍّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْمِلِ الْعُلَمَاءُ مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ الْخَاصَّةِ بِالسَّفَرِ فِي غَيْرِهِ؛ كَالصَّنَائِعِ الشَّاقَّةِ فِي الْحَضَرِ مَعَ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخْصَةِ، فَإِذًا لَا يَنْبَغِي الْخُرُوجُ عَنْ حُكْمِ الْعَزِيمَةِ مَعَ عَوَارِضِ الْمَشَقَّاتِ الَّتِي لَا تَطَّرِدُ وَلَا تَدُومُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَارٍ أَيْضًا فِي الْعَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَمْ يُخْرِجْهَا ذَلِكَ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَادِيَّةً، فَصَارَ عَارِضُ الْمَشَقَّةِ- إِذَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا أَوْ دَائِمًا- مَعَ أَصْلِ عَدَمِ الْمَشَقَّةِ، كَالْأَمْرِ الْمُعْتَادِ أَيْضًا؛ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَصْلِ‏.‏

لَا يُقَالُ‏:‏ كَيْفَ يَكُونُ اجْتِهَادِيًّا وَفِيهِ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ؛ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 173‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 184‏]‏‏.‏

وَ«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ»‏.‏

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَسِوَاهُ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ‏.‏

لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ حَالَةُ الِاضْطِرَارِ قَدْ تُبَيِّنُ أَنَّهُ الَّذِي يَخَافُ مَعَهُ فَوْتَ الرُّوحِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ عُذْرٌ أَيْضًا؛ وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَمَحْمُولٌ عَلَى تَحَقُّقِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي يَعْجِزُ مَعَهَا عَنِ الْقِيَامِ بِالْوَظَائِفِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الدُّنْيَوِيَّةِ، بِحَيْثُ تَرْجِعُ الْعَزِيمَةُ إِلَى نَوْعٍ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ مُنْتَفٍ سَمْعًا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَشَاقِّ مُفْتَقِرٌ إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِ تَحْتَ تِلْكَ النُّصُوصِ، وَفِيهِ تَضْطَرِبُ أَنْظَارُ النُّظَّارِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَسَبَبُ ذَلِكَ- وَهُوَ رُوحُ هَذَا الدَّلِيلِ- هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ الطَّارِئَةَ تَقَعُ لِلْعِبَادِ ابْتِلَاءً، وَاخْتِبَارًا لِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرَدُّدِ الْمُتَرَدِّدِينَ، حَتَّى يَظْهَرَ لِلْعَيَانِ مَنْ آمَنَ بِرَبِّهِ عَلَى بَيِّنَةٍ مِمَّنْ هُوَ فِي شَكٍّ، وَلَوْ كَانَتِ التَّكَالِيفُ كُلُّهَا يَخْرِمُ كُلِّيَّاتِهَا كُلُّ مَشَقَّةٍ عَرَضَتْ لَانْخَرَمَتِ الْكُلِّيَّاتُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَتَمَيَّزِ الْخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ، فَالِابْتِلَاءُ فِي التَّكَالِيفِ وَاقِعٌ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ، فَيُبْتَلَى الْمَرْءُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الْمُلْك‏:‏ 2‏]‏‏.‏

‏{‏الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْعَنْكَبُوت‏:‏ 1- 3‏]‏‏.‏

‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ‏}‏، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 186‏]‏‏.‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏مُحَمَّدٍ‏:‏ 31‏]‏‏.‏

‏{‏وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 141‏]‏‏.‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 155‏]‏ إِلَى آخِرِهَا‏.‏

فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ صَبَرُوا لَهَا، وَلَمْ يَخْرُجُوا بِهَا عَنْ أَصْلِ مَا حَمَلُوهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ‏}‏ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْبَلْوَى قَلِيلَةُ الْوُقُوعِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُمْهُورِ الْأَحْوَالِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَحْوَالِ التَّكْلِيفِ؛ فَإِذَا كَانَ الْمَعْلُومُ مِنَ الشَّرْعِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ طَلَبَ الِاصْطِبَارَ عَلَيْهَا وَالتَّثَبُّتَ فِيهَا حَتَّى يَجْرِيَ التَّكْلِيفُ عَلَى مَجْرَاهُ الْأَصْلِيِّ، كَانَ التَّرَخُّصُ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَالْمُضَادِّ لِمَا قَصَدَهُ الشَّارِعُ مِنْ تَكْمِيلِ الْعَمَلِ عَلَى أَصَالَتِهِ لِتَكْمِيلِ الْأَجْرِ‏.‏

وَالْخَامِسُ‏:‏ أَنَّ التَّرَخُّصَ إِذَا أُخِذَ بِهِ فِي مَوَارِدِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، كَانَ ذَرِيعَةً إِلَى انْحِلَالِ عَزَائِمِ الْمُكَلَّفِينَ فِي التَّعَبُّدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَإِذَا أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ؛ كَانَ حَرِيًّا بِالثَّبَاتِ فِي التَّعَبُّدِ، وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ فِيهِ‏.‏

بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخَيْرَ عَادَةٌ وَالشَّرَّ لَجَاجَةٌ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِقَامَةِ دَلِيلٍ، وَالْمُتَعَوِّدُ لِأَمْرٍ يَسْهُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرُ مَا لَا يَسْهُلُ عَلَى غَيْرِهِ؛ كَانَ خَفِيفًا فِي نَفْسِهِ أَوْ شَدِيدًا، فَإِذَا اعْتَادَ التَّرَخُّصَ؛ صَارَتْ كُلُّ عَزِيمَةٍ فِي يَدِهِ كَالشَّاقَّةِ الْحَرِجَةِ، وَإِذَا صَارَتْ كَذَلِكَ؛ لَمْ يَقُمْ بِهَا حَقَّ قِيَامِهَا، وَطَلَبَ الطَّرِيقَ إِلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا الْمُتَوَقَّعُ فِي أُصُولٍ كُلِّيَّةٍ وَفُرُوعٍ جُزْئِيَّةٍ؛ كَمَسْأَلَةِ الْأَخْذِ بِالْهَوَى فِي اخْتِلَافِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَمَسْأَلَةِ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْجَوَازِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نُبِّهَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ أَوْ لَمْ يُنَبَّهْ عَلَيْهِ‏.‏

وَبَيَانُ الثَّانِي ظَاهِرٌ أَيْضًا مِمَّا تَقَدَّمَ؛ فَإِنَّهُ ضِدُّهُ‏.‏

وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ أَسْبَابَ الرُّخَصِ أَكْثَرُ مَا تَكُونُ مُقَدَّرَةً وَمُتَوَهَّمَةً لَا مُحَقَّقَةً، فَرُبَّمَا عَدَّهَا شَدِيدَةً وَهِيَ خَفِيفَةٌ فِي نَفْسِهَا، فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى عَدَمِ صِحَّةِ التَّعَبُّدِ، وَصَارَ عَمَلُهُ ضَائِعًا وَغَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَصْلٍ، وَكَثِيرًا مَا يُشَاهِدُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ، فَقَدْ يَتَوَهَّمُ الْإِنْسَانُ الْأُمُورَ صَعْبَةً، وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ إِلَّا بِمَحْضِ التَّوَهُّمِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ لِخَوْفِ لُصُوصٍ أَوْ سِبَاعٍ، إِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ أَعَادَ عِنْدَ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ عَدَّهُ مُقَصِّرًا؛ لِأَنَّ هَذَا يَعْتَرِي فِي أَمْثَالِهِ مُصَادَمَةُ الْوَهْمِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَأَى اللُّصُوصَ أَوِ السِّبَاعَ، وَقَدْ مَنَعَتْهُ مِنَ الْمَاءِ؛ فَلَا إِعَادَةَ هُنَا، وَلَا يُعَدُّ هَذَا مُقَصِّرًا، وَلَوْ تَتَبَّعَ الْإِنْسَانُ الْوَهْمَ لَرَمَى بِهِ فِي مَهَاوٍ بَعِيدَةٍ، وَلَأَبْطَلَ عَلَيْهِ أَعْمَالًا كَثِيرَةً، وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي الْعَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ‏.‏

وَقَدْ تَكُونُ شَدِيدَةً، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ مَطْلُوبٌ بِالصَّبْرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَالْعَمَلِ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَفِي الصَّحِيح‏:‏ «مَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ»، وَجَاءَ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ فِي وُقُوفِ الْوَاحِدِ لِلِاثْنَيْنِ بَعْدَ مَا نُسِخَ وُقُوفُهُ لِلْعَشَرَةِ ‏{‏وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 66‏]‏، قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لَمَّا نَزَلَتْ‏:‏ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ مِنَ الْعَدَدِ هَذَا بِمَعْنَى الْخَبَرِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْحَدِيثِ وَالْآيَةِ‏.‏

وَالسَّادِسُ‏:‏ إِنَّ مَرَاسِمَ الشَّرِيعَةِ مُضَادَّةٌ لِلْهَوَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَكَثِيرًا مَا تَدْخُلُ الْمَشَقَّاتُ، وَتَتَزَايَدُ مِنْ جِهَةِ مُخَالِفَةِ الْهَوَى، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى ضِدُّ اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ؛ فَالْمُتَّبِعُ لِهَوَاهُ يَشُقُّ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي نَفْسِهِ شَاقًّا أَمْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ يَصُدُّهُ عَنْ مُرَادِهِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَقْصُودِهِ، فَإِذَا كَانَ الْمُكَلَّفُ قَدْ أَلْقَى هَوَاهُ وَنَهَى نَفْسَهُ عَنْهُ، وَتَوَجَّهَ إِلَى الْعَمَلِ بِمَا كُلِّفَ بِهِ خَفَّ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ بِحُكْمِ الِاعْتِيَادِ يُدَاخِلُهُ حُبُّهُ، وَيَحْلُو لَهُ مُرُّهُ حَتَّى يَصِيرَ ضِدَّهُ ثَقِيلًا عَلَيْهِ، بَعْدَ مَا كَانَ الْأَمْرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَصَارَتِ الْمَشَقَّةُ وَعَدَمُهَا إِضَافِيَّةً تَابِعَةً لِغَرَضِ الْمُكَلَّفِ؛ فَرُبَّ صَعْبٍ يَسْهُلُ لِمُوَافِقَةِ الْغَرَضِ، وَسَهْلٍ يَصْعُبُ لِمُخَالَفَتِهِ‏.‏

فَالشَّاقُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَهُوَ مَا لَا يُطِيقُهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكَلَّفٌ؛ كَانَ مُطِيقًا لَهُ بِحُكْمِ الْبَشَرِيَّةِ، أَمْ لَا، هَذَا لَا كَلَامَ فِيهِ، إِنَّمَا الْكَلَامُ فِي غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ إِضَافِيٌّ، لَا يُقَالُ فِيه‏:‏ ‏[‏إِنَّهُ‏]‏ مَشَقَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا إِنَّهُ لَيْسَ بِمَشَقَّةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِذَا كَانَ دَائِرًا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَأَصْلُ الْعَزِيمَةِ حَقِيقِيٌّ ثَابِتٌ؛ فَالرُّجُوعُ إِلَى أَصْلِ الْعَزِيمَةِ حَقٌّ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الرُّخْصَةِ يُنْظَرُ فِيهِ بِحَسَبِ كُلِّ شَخْصٍ، وَبِحَسَبِ كُلِّ عَارِضٍ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ بَيَانٌ قَطْعِيٌّ، وَكَانَ أَعْلَى ذَلِكَ الظَّنَّ الَّذِي لَا يَخْلُو عَنْ مَعَارِضَ؛ كَانَ الْوَجْهُ الرُّجُوعَ إِلَى الْأَصْلِ، حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي حَقِّ هَذَا الشَّخْصِ حَقٌّ، وَلَا تَكُونُ حَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ حَتَّى تَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُهَا، فَتَلْحَقُ حِينَئِذٍ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي لَا كَلَامَ فِيهِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَأْتِ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الرُّخْصَةِ وَالتَّخْفِيفِ مُطْلَقًا؛ كَفِطْرِهِ عَلَيْهِ ‏[‏الصَّلَاةُ وَ‏]‏ السَّلَامُ فِي السَّفَرِ حِينَ أَبَى النَّاسُ مِنَ الْفِطْرِ، وَقَدْ شَقَّ الصَّوْمُ عَلَيْهِمْ؛ فَهَذَا وَنَحْوُهُ أَمْرٌ آخَرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْسَامِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي غَيْرِهِ‏.‏

فَثَبَتَ أَنَّ الْوُقُوفَ مَعَ الْعَزَائِمِ أَوْلَى، وَالْأَخْذَ بِهَا فِي مَحَالِّ التَّرَخُّصِ أَحْرَى‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَهَلِ الْوُقُوفُ مَعَ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ مِنْ قَبِيلِ الْوَاجِبِ أَوِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَمْ ثَمَّ انْقِسَامٌ‏؟‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ يَتَبَيَّنُ بِتَفْصِيلِ أَحْوَالِ الْمَشَقَّاتِ، وَهِيَ‏:‏

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏أَنْوَاعُ الْمَشَقَّاتِ‏]‏

فَالْمَشَقَّاتُ الَّتِي هِيَ مَظَانُّ التَّخْفِيفَاتِ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً، وَهُوَ مُعْظَمُ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّرَخُّصُ كَوُجُودِ الْمَشَقَّةِ الْمَرَضِيَّةِ وَالسَّفَرِيَّةِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا لَهُ سَبَبٌ مُعَيَّنٌ وَاقِعٌ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ تَكُونَ تَوَهُّمِيَّةً مُجَرَّدَةً، بِحَيْثُ لَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ الْمُرَخَّصُ لِأَجْلِهِ، وَلَا وُجِدَتْ حِكْمَتُهُ، وَهِيَ الْمَشَقَّةُ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهَا شَيْءٌ، لَكِنْ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ‏.‏

فَأَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ؛ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهُ عَلَى الْعَزِيمَةِ يُدْخِلُ عَلَيْهِ فَسَادًا لَا يُطِيقُهُ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا، وَيَكُونُ ذَلِكَ مُحَقَّقًا لَا مَظْنُونًا وَلَا مُتَوَهَّمًا أَوْ لَا؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ؛ فَرُجُوعُهُ إِلَى الرُّخْصَةِ مَطْلُوبٌ، وَرَجَعَ إِلَى الْقِسْمِ الَّذِي لَمْ يَقَعِ الْكَلَامُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ هُنَا حَقٌّ لِلَّهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي- وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَظْنُونًا-؛ فَالظُّنُونُ تَخْتَلِفُ، وَالْأَصْلُ الْبَقَاءُ عَلَى أَصْلِ الْعَزِيمَةِ، وَمَتَى قَوِيَ الظَّنُّ ضَعُفَ مُقْتَضَى الْعَزِيمَةِ، وَمَتَى ضَعُفَ الظَّنُّ قَوِيَ؛ كَالظَّانِّ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الصَّوْمِ مَعَ وُجُودِ الْمَرَضِ الَّذِي مِثْلُهُ يُفْطِرُ فِيهِ، وَلَكِنْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الظَّنُّ مُسْتَنِدًا إِلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ مَثَلًا فَلَمْ يُطِقِ الْإِتْمَامَ أَوِ الصَّلَاةِ مَثَلًا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ فَقَعَدَ فَهَذَا هُوَ الْأَوَّلُ؛ إِذْ لَيْسَ عَلَيْهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إِلَى سَبَبٍ مَأْخُوذٍ مِنَ الْكَثْرَةِ، وَالسَّبَبُ مَوْجُودٌ عَيْنًا بِمَعْنَى أَنَّ الْمَرَضَ حَاضِرٌ، وَمِثْلُهُ لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الصِّيَامِ، وَلَا عَلَى الصَّلَاةِ قَائِمًا أَوْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ عَادَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجَرِّبَ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَهَذَا قَدْ يَلْحَقُ بِمَا قَبْلَهُ، وَلَا يَقْوَى قُوَّتَهُ، أَمَّا لُحُوقُهُ بِهِ فَمِنْ جِهَةِ وُجُودِ السَّبَبِ، وَأَمَّا مُفَارَقَتُهُ لَهُ فَمِنْ جِهَةِ أَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِالْعِبَادَةِ، وَهُوَ لَمْ يَتَلَبَّسْ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ فِي الْعَزِيمَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ قُدْرَتُهُ عَلَيْهَا وَعَدَمُ قُدْرَتِهِ؛ فَيَكُونُ الْأَوْلَى هُنَا الْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ إِلَى أَنْ يَظْهَرَ بَعْدَ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ‏.‏

وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ تَوَهُّمِيَّةً، بِحَيْثُ لَمْ يُوجَدِ السَّبَبُ وَلَا الْحِكْمَةُ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لِلسَّبَبِ عَادَةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي أَنَّهُ يُوجَدُ بَعْدُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ؛ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُوجَدَ أَوْ لَا؛ فَإِنْ وُجِدَ فَوَقَعَتِ الرُّخْصَةُ مَوْقِعَهَا فَفِيهِ خِلَافٌ، أَعْنِي فِي إِجْزَاءِ الْعَمَلِ بِالرُّخْصَةِ لَا فِي جَوَازِ الْإِقْدَامِ ابْتِدَاءً؛ إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُبْنَى حُكْمٌ عَلَى سَبَبٍ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، بَلْ لَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ عَلَى سَبَبٍ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهُ، وَإِنْ وُجِدَ السَّبَبُ، وَهُوَ الْمُقْتَضِي لِلْحُكْمِ؛ فَكَيْفَ إِذَا لَمْ يُوجَدْ نَفْسُ السَّبَبِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي نَحْوِ الظَّانِّ أَنَّهُ تَأْتِيهِ الْحُمَّى غَدًا بِنَاءً عَلَى عَادَتِهِ فِي أَدْوَارِهَا فَيُفْطِرُ قَبْلَ مَجِيئِهَا، وَكَذَلِكَ الطَّاهِرُ إِذَا بَنَتْ عَلَى الْفِطْرِ ظَنًّا أَنَّ حَيْضَتَهَا سَتَأْتِي ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَهَذَا كُلُّهُ أَمْرٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاعْتِبَارِ فِي إِسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الْأَنْفَال‏:‏ 68‏]‏‏.‏

فَإِنَّ هَذَا إِسْقَاطٌ لِلْعُقُوبَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْغَنَائِمَ سَتُبَاحُ لَهُمْ، وَهَذَا غَيْرُ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَتَرَتُّبُ الْعَذَابِ هُنَا لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلَى تَرَتُّبٍ شَرْعِيٍّ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ إِلَهِيٌّ كَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ اللَّاحِقَةِ لِلْإِنْسَانِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّبَبِ عَادَةٌ مُطَّرِدَةٌ فَلَا إِشْكَالَ هُنَا‏.‏

وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّ الظُّنُونَ وَالتَّقْدِيرَاتِ غَيْرَ الْمُحَقَّقَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى قِسْمِ التَّوَهُّمَاتِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ، وَكَذَلِكَ أَهْوَاءُ النُّفُوسِ؛ فَإِنَّهَا تُقَدِّرُ أَشْيَاءَ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، فَالصَّوَابُ الْوُقُوفُ مَعَ أَصْلِ الْعَزِيمَةِ إِلَّا فِي الْمَشَقَّةِ الْمُخِلَّةِ الْفَادِحَةِ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ أَوْلَى مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى دَخْلٍ فِي عَقْلِ الْإِنْسَانِ أَوْ دِينِهِ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى الصَّبْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِالصَّبْرِ إِلَّا مَنْ يُطِيقُهُ، فَأَنْتَ تَرَى بِالِاسْتِقْرَاءِ أَنَّ الْمَشَقَّةَ الْفَادِحَةَ لَا يَلْحَقُ بِهَا تَوَهُّمُهَا، بَلْ حُكْمُهَا أَضْعَفُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوَهُّمَ غَيْرُ صَادِقٍ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَإِذًا لَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ بِحَقِيقِيَّةٍ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ هِيَ الْعِلَّةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلرُّخْصَةِ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ كَانَ الْحُكْمُ غَيْرَ لَازِمٍ إِلَّا إِذَا قَامَتِ الْمَظِنَّةُ- وَهِيَ السَّبَبُ- مَقَامَ الْحِكْمَةِ؛ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ السَّبَبُ مُنْتَهِضًا عَلَى الْجَوَازِ لَا عَلَى اللُّزُومِ؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْحِكْمَةَ الَّتِي هِيَ الْعِلَّةُ عَلَى كَمَالِهَا، فَالْأَحْرَى الْبَقَاءُ مَعَ الْأَصْلِ، وَأَيْضًا؛ فَالْمَشَقَّةُ التَّوَهُّمِيَّةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاحْتِيَاطِ عَلَى الْمَشَقَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالْحَقِيقِيَّةُ لَيْسَتْ فِي الْوُقُوعِ عَلَى وِزَانٍ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَكُنْ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا مُتَمَكِّنًا‏.‏

وَأَمَّا الرَّاجِعَةُ إِلَى أَهْوَاءِ النُّفُوسِ خُصُوصًا؛ فَإِنَّهَا ضِدُّ الْأُولَى؛ إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ مِنْ وَضْعِ الشَّرَائِعِ إِخْرَاجُ النُّفُوسِ عَنْ أَهْوَائِهَا وَعَوَائِدِهَا، فَلَا تُعْتَبَرُ فِي شَرْعِيَّةِ الرُّخْصَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَنْ هَوِيَتْ نَفْسُهُ أَمْرًا، أَلَا تَرَى كَيْفَ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنِ اعْتَذَرَ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ لِيَتَرَخَّصَ‏؟‏ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 49‏]‏؛ لِأَنَّ الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ قَالَ‏:‏ ائْذَنْ لِي فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، وَلَا تَفْتِنِّي بِبَنَاتِ الْأَصْفَرِ؛ فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْهُنَّ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 81‏]‏، ثُمَّ بَيَّنَ الْعُذْرَ الصَّحِيحَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ الْآيَاتِ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 91‏]‏؛ فَبَيَّنَ أَهْلَ الْأَعْذَارِ هُنَا وَهُمُ الَّذِينَ لَا يُطِيقُونَ الْجِهَادَ، وَهُمُ الزَّمْنَى، وَالصِّبْيَانُ، وَالشُّيُوخُ، وَالْمَجَانِينُ، وَالْعُمْيَانُ، وَنَحْوُهُمْ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَجِدْ نَفَقَةً أَصْلًا، وَلَا وَجَدَ مَنْ يَحْمِلُهُ، وَقَالَ فِيه‏:‏ ‏{‏إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏، وَمِنْ جُمْلَةِ النَّصِيحَةِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ لَا يُبْقُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ بَقِيَّةً فِي طَاعَةِ اللَّهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 41‏]‏، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 39‏]‏؛ فَمَا ظَنُّكَ بِمَنْ كَانَ عُذْرُهُ هَوَى نَفْسِهِ‏؟‏‏!‏

نَعَمْ، وَضْعُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ أَهْوَاءُ النُّفُوسِ تَابِعَةً لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ فِيهَا، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ فِي شَهَوَاتِهِمْ، وَأَحْوَالِهِمْ، وَتَنَعُّمَاتِهِمْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إِلَى مَفْسَدَةٍ، وَلَا يَحْصُلُ بِهَا الْمُكَلَّفُ عَلَى مَشَقَّةٍ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهَا عَنْهُ التَّمَتُّعُ إِذَا أَخَذَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْدُودِ لَهُ؛ فَلِذَلِكَ شَرَعَ لَهُ ابْتِدَاءً رُخْصَةَ السَّلَمِ، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ تَوْسِعَةٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَانِعٌ فِي قَاعِدَةٍ أُخْرَى، وَأَحَلَّ لَهُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، فَمَتَى جَمَحَتْ نَفْسُهُ إِلَى هَوًى قَدْ جَعَلَ الشَّرْعُ لَهُ مِنْهُ مَخْرَجًا، وَإِلَيْهِ سَبِيلًا، فَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ بَابِهِ؛ كَانَ هَذَا هَوًى شَيْطَانِيًّا وَاجِبًا عَلَيْهِ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ؛ كَالْمُولَعِ بِمَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي فَلَا رُخْصَةَ لَهُ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ هُنَا هِيَ عَيْنُ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الرُّخَصِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ فَإِنَّ لَهَا فِي الشَّرْعِ مُوَافِقَةً إِذَا وُزِنَتْ بِمِيزَانِهَا‏.‏

فَقَدْ تَبَيَّنَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَشَقَّةَ مُخَالَفَةِ الْهَوَى لَا رُخْصَةَ فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَالْمَشَقَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِيهَا الرُّخْصَةُ بِشَرْطِهَا، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهَا، فَالْأَحْرَى بِمَنْ يُرِيدُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ وَخَلَاصَ نَفْسِهِ الرُّجُوعُ إِلَى أَصْلِ الْعَزِيمَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَحْرَوِيَّةَ تَارَةً تَكُونُ مِنْ بَابِ النَّدْبِ، وَتَارَةً تَكُونُ مِنْ بَابِ الْوُجُوبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْفَوَائِدُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ‏]‏

وَمِنَ الْفَوَائِدِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الِاحْتِيَاطُ فِي اجْتِنَابِ الرُّخَصِ فِي الْقِسْمِ الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ، وَالْحَذَرُ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ؛ فَإِنَّهُ مَوْضِعُ الْتِبَاسٍ، وَفِيهِ تَنْشَأُ خُدَعُ الشَّيْطَانِ وَمُحَاوَلَاتُ النَّفْسِ، وَالذَّهَابُ فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى عَلَى غَيْرِ مَهْيَعٍ، وَلِأَجْلِ هَذَا أَوْصَى شُيُوخُ الصُّوفِيَّةُ تَلَامِذَتَهُمْ بِتَرْكِ اتِّبَاعِ الرُّخَصِ جُمْلَةً، وَجَعَلُوا مِنْ أُصُولِهِمُ الْأَخْذَ بِعَزَائِمِ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ مَلِيحٌ، مِمَّا أَظْهَرُوا مِنْ فَوَائِدِهِمْ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَإِنَّمَا يَرْتَكِبُ مِنَ الرُّخَصِ مَا كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ صَارَ شَرْعًا مَطْلُوبًا كَالتَّعَبُّدَاتِ أَوْ كَانَ ابْتِدَائِيًّا كَالْمُسَاقَاةِ، وَالْقَرْضِ؛ لِأَنَّهُ حَاجِيٌّ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ؛ فَاللَّجَأُ إِلَى الْعَزِيمَةِ‏.‏

- وَمِنْهَا‏:‏ أَنْ يُفْهَمَ مَعْنَى الْأَدِلَّةِ فِي رَفْعِ الْحَرَجِ عَلَى مَرَاتِبِهَا؛ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ» فَالرُّخَصُ الَّتِي هِيَ مَحْبُوبَةٌ مَا ثَبَتَ الطَّلَبُ فِيهَا؛ فَإِنَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى الْمَشَقَّةِ الْفَادِحَةِ الَّتِي قَالَ فِي مِثْلِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَيْسَ مِنَ الْبَرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»، كَانَ مُوَافِقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 28‏]‏‏.‏

بَعْدَ مَا قَالَ فِي الْأُولَى‏:‏ ‏{‏وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 184‏]‏‏.‏

وَفِي الثَّانِيَة‏:‏ ‏{‏وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 25‏]‏‏.‏

فَلْيَتَفَطَّنِ النَّاظِرُ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَى هَذِهِ الدَّقَائِقِ؛ لِيَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ فِي الْمَجَارِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَمِنْ تَتَبَّعَ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَبَيَّنَ لَهُ مَا ذُكِرَ أَتَمَّ بَيَانٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، هَذَا تَقْرِيرُ وَجْهِ النَّظَرِ فِي هَذَا الطَّرَفِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في تَرْجِيحِ الرُّخَصِ‏]‏

وَقَدْ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الْأَخْذَ بِالْعَزِيمَةِ لَيْسَ بِأُولَى مِنْ أَوْجُهٍ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ إِنَّ أَصْلَ الْعَزِيمَةَ، وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا؛ فَأَصْلُ التَّرَخُّصِ قَطْعِيٌّ أَيْضًا؛ فَإِذَا وَجَدْنَا الْمَظِنَّةَ اعْتَبَرْنَاهَا كَانَتْ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ قَدْ أَجْرَى الظَّنَّ فِي تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ مَجْرَى الْقَطْعِ، فَمَتَى ظُنَّ وُجُودُ سَبَبِ الْحُكْمِ اسْتَحَقَّ السَّبَبُ لِلِاعْتِبَارِ، فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ عَلَى أَنَّ الدَّلَائِلَ الظَّنِّيَّةَ تَجْرِي فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ مَجْرَى الدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ‏.‏

وَلَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الْقَاطِعَ إِذَا عَارَضَ الظَّنَّ سَقَطَ اعْتِبَارُ الظَّنِّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ إِنَّمَا ذَلِكَ فِي بَابِ تَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ بِحَيْثُ يَكُونُ أَحَدُهُمَا رَافِعًا لِحُكْمِ الْآخَرِ جُمْلَةً، أَمَّا إِذَا كَانَا جَارِيَيْنِ مَجْرَى الْعَامِّ مَعَ الْخَاصِّ أَوِ الْمُطْلَقِ مَعَ الْمُقَيَّدِ فَلَا، وَمَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا الثَّانِي لَا مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْعَزَائِمَ وَاقِعَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِشَرْطِ أَنْ لَا حَرَجَ، فَإِنْ كَانَ الْحَرَجُ صَحَّ اعْتِبَارُهُ، وَاقْتَضَى الْعَمَلَ بِالرُّخْصَةِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ قَدْ تَنْسَخُ حُكْمَ الْقَطْعِ السَّابِقِ، كَمَا إِذَا كَانَ الْأَصْلُ التَّحْرِيمَ فِي الشَّيْءِ، ثُمَّ طَرَأَ سَبَبٌ مُحَلِّلٌ ظَنِّيٌّ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الصَّائِدِ أَنَّ مَوْتَ الصَّيْدِ بِسَبَبِ ضَرْبِ الصَّائِدِ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِهِ أَوْ يُعِينَ عَلَى مَوْتِهِ غَيْرَهُ؛ فَالْعَمَلُ عَلَى مُقْتَضَى الظَّنِّ صَحِيحٌ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا، فَاسْتِصْحَابُهُ مَعَ هَذَا الْمُعَارِضِ الظَّنِّيِّ لَا يُمْكِنُ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ بَقَاءُ الْقَطْعِ بِالتَّحْرِيمِ مَعَ، وُجُودِ الظَّنِّ هُنَا، بَلْ مَعَ الشَّكِّ؛ فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ لَا تُبْقِي لِلْقَطْعِ الْمُتَقَدِّمِ حُكْمًا، وَغَلَبَاتُ الظُّنُونِ مُعْتَبِرَةٌ فَلْتَكُنْ مُعْتَبِرَةً فِي التَّرَخُّصِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ إِنَّ أَصْلَ الرُّخْصَةِ وَإِنْ كَانَ جُزْئِيًّا بِالْإِضَافَةِ إِلَى عَزِيمَتِهَا؛ فَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَقْدَحَ فِيمَا أُمِرَ بِهِ بِالتَّرَخُّصِ، بَلِ الْجُزْئِيُّ إِذَا كَانَ مُسْتَثْنًى مِنْ كُلِّيٍّ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ لِلْعُمُومِ أَوْ مِنْ بَابِ التَّقْيِيدِ لِلْإِطْلَاقِ، وَقَدْ مَرَّ فِي الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ صِحَّةُ تَخْصِيصِ الْقَطْعِيِّ بِالظَّنِّيِّ؛ فَهَذَا أَوْلَى، وَأَيْضًا؛إِذَا كَانَ الْحُكْمُ الرُّجُوعَ إِلَى التَّخْصِيصِ وَهُوَ بِظَنِّيٍّ، دُونَ أَصْلِ الْعُمُومِ وَهُوَ قَطْعِيٌّ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَكَمَا لَا يَنْخَرِمُ الْكُلِّيُّ بِانْخِرَامِ بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَنْخَرِمَ بِالرُّخَصِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَذَلِكَ فَاسِدٌ؛ فَكَذَلِكَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ إِنَّ الْأَدِلَّةَ عَلَى رَفْعِ الْحَرَجِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَلَغَتْ مَبْلَغَ الْقَطْعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وَسَائِرِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 28‏]‏‏.‏

‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَاب‏:‏ 38‏]‏‏.‏

‏{‏وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وَقَدْ سُمِّيَ هَذَا الدِّينُ الْحَنِيفِيَّةَ السَّمْحَةَ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّسْهِيلِ وَالتَّيْسِيرِ، وَأَيْضًا؛ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَسَائِلِ قَبْلَ هَذَا أَدِلَّةُ إِبَاحَةِ الرُّخَصِ، وَكُلُّهَا وَأَمْثَالُهَا جَارِيَةٌ هُنَا، وَالتَّخْصِيصُ بِبَعْضِ الرُّخَصِ دُونَ بَعْضٍ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ‏.‏

وَلَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الْمَشَقَّةَ إِذَا كَانَتْ قَطْعِيَّةً فَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ الظَّنِّيَّةِ‏.‏

فَإِنَّ الْقَطْعَ مَعَ الظَّنِّ مُسْتَوَيَانِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الْفَرْقُ فِي التَّعَارُضِ، وَلَا تَعَارُضَ فِي اعْتِبَارِهِمَا مَعًا هَاهُنَا، وَإِذْ ذَاكَ لَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ دُونَ الرُّخْصَةِ أَوْلَى، بَلْ قَدْ يُقَالُ‏:‏ الْأَوْلَى الْأَخْذُ بِالرُّخْصَةِ لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ الْعَبْدِ مَعًا؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا وَاقِعَةٌ، لَكِنْ عَلَى مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ لَا أَنَّهَا سَاقِطَةٌ رَأْسًا، بِخِلَافِ الْعَزِيمَةِ؛ فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ حَقَّ اللَّهِ مُجَرَّدًا، وَاللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا الْعِبَادَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى حَظِّ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَالرُّخْصَةُ أَحْرَى لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ فِيهَا‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ إِنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّخْصَةِ الرِّفْقُ بِالْمُكَلَّفِ عَنْ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ، فَالْأَخْذُ بِهَا مُطْلَقًا مُوَافَقَةٌ لِقَصْدِهِ بِخِلَافِ الطَّرَفِ الْآخَرِ؛ فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ التَّشْدِيدِ، وَالتَّكَلُّفِ وَالتَّعَمُّقِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْآيَاتِ ‏[‏وَالْأَحَادِيثِ‏]‏؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 86‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

وَفِي الْتِزَامِ الْمَشَاقِّ تَكْلِيفٌ وَعُسْرٌ، وَفِيهَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ بَقَرَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏:‏ لَوْ ذَبَحُوا بَقَرَةً مَا لَأَجْزَأَتْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ»‏.‏

وَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ التَّبَتُّلِ، وَقَالَ‏:‏ «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» بِسَبَبِ مَنْ عَزَمَ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ إِلَى أَنْوَاعِ الشِّدَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْأُمَمِ، فَخَفَّفَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِه‏:‏ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وَقَدْ تَرَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْوَاعٍ مِنَ التَّرَخُّصِ خَالِيًا وَبِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ كَالْقَصْرِ، وَالْفِطْرِ فِي السَّفَرِ، وَالصَّلَاةِ جَالِسًا حِينَ جُحِشَ شِقُّهُ، وَكَانَ- حِينَ بَدِنَ- يُصَلِّي بِاللَّيْلِ فِي بَيْتِهِ قَاعِدًا حَتَّى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ؛ قَامَ فَقَرَأَ شَيْئًا ثُمَّ رَكَعَ، وَجَرَى أَصْحَابُهُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- ذَلِكَ الْمَجْرَى مِنْ غَيْرِ عَتْبٍ وَلَا لَوْمٍ، كَمَا قَالَ‏:‏ وَلَا يَعِيبُ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ، وَالْأَدِلَّةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ‏.‏

وَالْخَامِسُ‏:‏ أَنَّ تَرْكَ التَّرَخُّصِ مَعَ ظَنِّ سَبَبِهِ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الِانْقِطَاعِ عَنِ الِاسْتِبَاقِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالسَّآمَةِ وَالْمَلَلِ، وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْعِبَادَةِ، وَكَرَاهِيَةِ الْعَمَلِ، وَتَرْكِ الدَّوَامِ، وَذَلِكَ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَوَهَّمَ التَّشْدِيدَ أَوْ طُلِبَ ‏[‏بِهِ‏]‏ أَوْ قِيلَ لَهُ فِيهِ كَرِهَ ذَلِكَ وَمَلَّهُ، وَرُبَّمَا عَجَزَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَصْبِرُ أَحْيَانًا وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَلَا يَصْبِرُ فِي بَعْضٍ، وَالتَّكْلِيفُ دَائِمٌ، فَإِذَا لَمْ يَنْفَتِحْ لَهُ مِنْ بَابِ التَّرَخُّصِ إِلَّا مَا يَرْجِعُ إِلَى مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَسُدَّ عَنْهُ مَا سِوَى ذَلِكَ؛ عَدَّ الشَّرِيعَةَ شَاقَّةً، وَرُبَّمَا سَاءَ ظَنُّهُ بِمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَائِلُ رَفْعِ الْحَرَجِ أَوِ انْقَطَعَ أَوْ عَرَضَ لَهُ بَعْضُ مَا يَكْرَهُ شَرْعًا، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ‏}‏ ‏[‏الْحُجُرَات‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 87‏]‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ تَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَشْدِيدًا عَلَى النَّفْسِ فُسُمِّيَ اعْتِدَاءً لِذَلِكَ‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا»، «وَمَا خُيِّرَ عَلَيْهِ ‏[‏الصَّلَاةُ وَ‏]‏ السَّلَامُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا» الْحَدِيثَ‏.‏

وَنَهَى عَنِ الْوِصَالِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَهُوا؛ وَاصَلَ بِهِمْ يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رَأَوُا الْهِلَالَ، فَقَالَ‏:‏ «لَوْ تَأَخَّرَ الشَّهْرُ لَزِدْتُكُمْ» كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ حِينَ أَبَوْا أَنْ يَنْتَهُوا، وَقَالَ‏:‏ «لَوْ مُدَّ لَنَا فِي الشَّهْرِ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ»، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حِينَ كَبِرَ‏:‏ يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «هَذِهِ الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ زَعَمُوا أَنَّهَا لَا تَنَامُ اللَّيْلَ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ‏؟‏ «خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ» الْحَدِيثَ؛ فَأَنْكَرَ فِعْلَهَا كَمَا تَرَى‏.‏

وَحَدِيثُ إِمَامَةِ مُعَاذٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ»، «وَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ، مِمَّا يُطِيلُ بِنَا‏.‏ قَالَ‏:‏ فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ» الْحَدِيثَ‏.‏

وَحَدِيثُ الْحَبْلِ الْمَرْبُوطِ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ، سَأَلَ عَنْهُ عَلَيْهِ ‏[‏الصَّلَاةُ وَ‏]‏ السَّلَامُ قَالُوا‏:‏ حَبْلٌ لِزَيْنَبَ تُصَلِّي فَإِذَا كَسَلَتْ أَوْ فَتَرَتْ؛ أَمْسَكَتْ بِهِ، فَقَالَ‏:‏ «حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا كَسَلَ أَوْ فَتَرَ؛ قَعَدَ»‏.‏

وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرٌ؛ فَتَرَكَ الرُّخْصَةَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ ثَبَتَ أَنَّ الْأَخْذَ بِالرُّخْصَةِ أَوْلَى، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَوْلَى فَالْعَزِيمَةُ لَيْسَتْ بِأَوْلَى‏.‏

وَالسَّادِسُ‏:‏ إِنَّ مَرَاسِمَ الشَّرِيعَةِ إِنْ كَانَتْ مُخَالَفَةً لِلْهَوَى كَمَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ؛ فَإِنَّهَا أَيْضًا إِنَّمَا أَتَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي دُنْيَاهُمْ وَدِينِهِمْ، وَالْهَوَى لَيْسَ بِمَذْمُومٍ إِلَّا إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِمَرَاسِمِ الشَّرِيعَةِ، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ، فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، وَمَسْأَلَتُنَا مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّهُ إِذَا نَصَبَ لَنَا الشَّرْعُ سَبَبًا لِرُخْصَةٍ، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ فَأَعْمَلْنَا مُقْتَضَاهُ وَعَمِلْنَا بِالرُّخْصَةِ، فَأَيْنَ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي هَذَا‏؟‏ وَكَمَا أَنَّ اتِّبَاعَ الرُّخَصِ يَحْدُثُ بِسَبَبِهِ الْخُرُوجُ عَنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، كَذَلِكَ اتِّبَاعُ التَّشْدِيدَاتِ وَتَرْكُ الْأَخْذِ بِالرُّخَصِ يَحْدُثُ بِسَبَبِهِ الْخُرُوجُ عَنْ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، وَالْمُتَّبِعُ لِلْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الرُّخَصِ وَالْعَزَائِمِ سَوَاءً، فَإِنْ كَانَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي الْعَزَائِمِ مُعْتَبِرَةً؛ كَذَلِكَ فِي الرُّخَصِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَحْرَى مِنَ الْآخَرِ، وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ، هَذَا تَقْرِيرُ هَذَا الطَّرَفِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في الْأَوْلَوِيَّةِ فِي تَرْكِ التَّرَخُّصِ‏]‏

وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ فِي تَرْكِ التَّرَخُّصِ إِذَا تَعَيَّنَ سَبَبُهُ بِغَلَبَةِ ظَنٍّ أَوْ قَطْعٍ، وَقَدْ يَكُونُ التَّرَخُّصُ أَوْلَى فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَقَدْ يَسْتَوِيَانِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ غَلَبَةُ ظَنٍّ فَلَا إِشْكَالَ فِي مَنْعِ التَّرَخُّصِ‏.‏

‏[‏وَأَيْضًا‏]‏؛ فَتَكُونُ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْأَخْذِ بِالتَّخْفِيفِ مَحْمُولَةً عَلَى عُمُومِهَا وَإِطْلَاقِهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِبَعْضِ الْمَوَارِدِ دُونَ بَعْضٍ، وَمَجَالُ النَّظَرِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنَّ صَاحِبَ الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ إِنَّمَا جَعَلَ الْمُعْتَبَرَ الْعِلَّةَ الَّتِي هِيَ الْمَشَقَّةُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ الْمَظِنَّةُ، وَصَاحِبَ الطَّرِيقِ الثَّانِي إِنَّمَا جَعَلَ الْمُعْتَبَرَ الْمَظِنَّةَ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ، فَعَلَى هَذَا إِذَا كَانَتِ الْعِلَّةُ غَيْرَ مُنْضَبِطَةٍ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهَا مَظِنَّةٌ مُنْضَبِطَةٌ فَالْمَحَلُّ مَحَلُّ اشْتِبَاهٍ، وَكَثِيرًا مَا يُرْجَعُ هُنَا إِلَى أَصْلِ الِاحْتِيَاطِ؛ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ مُعْتَبَرٌ حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في الْخَلَاصِ مِنَ الْإِشْكَالِ‏]‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الْحَاصِلُ مِمَّا تَقَدَّمَ إِيرَادُ أَدِلَّةٍ مُتَعَارِضَةٍ، وَذَلِكَ وَضْعُ إِشْكَالٍ فِي الْمَسْأَلَةِ؛ فَهَلْ لَهُ مَخْلَصٌ الْمَخْرَجُ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ أَمْ لَا‏؟‏ قِيلَ‏:‏ نَعَمْ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنْ يُوكَلَ ذَلِكَ إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ؛ فَإِنَّمَا أَوْرَدَ هُنَا اسْتِدْلَالَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ تَرْجِيحٌ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ حَتَّى يَتَرَجَّحَ لَهُ أَحَدُهُمَا مُطْلَقًا أَوْ يَتَرَجَّحَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَالْآخِرُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، أَوْ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَذَا الْكَلَامِ، وَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ فِي تَقْرِيرِ أَنْوَاعِ الْمَشَاقِّ وَأَحْكَامِهَا؛ فَإِنَّهُ إِذَا تُؤَمِّلَ الْمَوْضِعَانِ ظَهَرَ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَجْهُ الصَّوَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ‏:‏ ‏[‏كُلُّ أَمْرٍ شَاقٍّ جَعَلَ الشَّارِعُ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ مَخْرَجًا قَصَدَ أَنْ يَتَحَرَّاهُ الْمُكَلَّفُ‏]‏

كُلُّ أَمْرٍ شَاقٍّ جَعَلَ الشَّارِعُ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ مَخْرَجًا، فَقَصْدُ الشَّارِعِ بِذَلِكَ الْمَخْرَجِ أَنْ يَتَحَرَّاهُ الْمُكَلَّفُ إِنْ شَاءَ؛ كَمَا جَاءَ فِي الرُّخَصِ شَرْعِيَّةُ الْمَخْرَجِ مِنَ الْمَشَاقِّ، فَإِذَا تَوَخَّى الْمُكَلَّفُ الْخُرُوجَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ؛ كَانَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِ الشَّارِعِ آخِذًا بِالْحَزْمِ فِي أَمْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ؛ وَقَعَ فِي مَحْظُورَيْن‏:‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ مُخَالَفَتُهُ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، كَانَتْ تِلْكَ الْمُخَالَفَةُ فِي وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ أَوْ مُبَاحٍ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ سَدُّ أَبْوَابِ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِ، وَفَقْدُ الْمَخْرَجِ عَنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ الشَّاقِّ، الَّذِي طَلَبَ الْخُرُوجَ عَنْهُ بِمَا لَمْ يُشْرَعْ لَهُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوْجُهٍ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ إِنَّ الشَّارِعَ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّهُ جَاءَ بِالشَّرِيعَةِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَكَانَتِ الْأُمُورُ الْمَشْرُوعَةُ ابْتِدَاءً قَدْ يَعُوقُ عَنْهَا عَوَائِقُ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَالْمَشَاقِّ الْخَارِجَةِ عَنِ الْمُعْتَادِ، شَرَعَ لَهُ أَيْضًا تَوَابِعَ وَتَكْمِيلَاتٍ وَمَخَارِجَ بِهَا يَنْزَاحُ عَنِ الْمُكَلَّفِ تِلْكَ الْمَشَقَّاتُ حَتَّى يَصِيرَ التَّكْلِيفُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ عَادِيًّا وَمُتَيَسِّرًا، وَلَوْلَا أَنَّهَا كَذَلِكَ؛ لَمْ يَكُنْ فِي شَرْعِهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْأُمُورِ الِابْتِدَائِيَّةِ، وَمَنْ نَظَرَ فِي التَّكْلِيفَاتِ أَدْرَكَ هَذَا بِأَيْسَرِ تَأْمُّلٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالْمُكَلَّفُ فِي طَلَبِ التَّخْفِيفِ مَأْمُورٌ أَنْ يَطْلُبَهُ مِنْ وَجْهِهِ الْمَشْرُوعِ؛ لِأَنَّ مَا يُطْلَبُ مِنَ التَّخْفِيفِ حَاصِلٌ فِيهِ حَالًا وَمَآلًا عَلَى الْقَطْعِ فِي الْجُمْلَةِ؛ فَلَوْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ؛ لَمْ يَكُنْ مَا طَلَبَ مِنَ التَّخْفِيفِ مَقْطُوعًا بِهِ وَلَا مَظْنُونًا لَا حَالًا وَلَا مَآلًا لَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَلَا عَلَى التَّفْصِيلِ؛ إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ؛ لَكَانَ مَشْرُوعًا أَيْضًا، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ؛ فَثَبَتَ أَنَّ طَالِبَ التَّخْفِيفِ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الشَّرْعِ لَا مَخْرَجَ لَهُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ إِنَّ هَذَا الطَّالِبَ إِذَا طَلَبَ التَّخْفِيفَ مِنَ الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ؛ فَيَكْفِيهِ فِي حُصُولِ التَّخْفِيفِ طَلَبُهُ مِنْ وَجْهِهِ، وَالْقَصْدُ إِلَى ذَلِكَ يُمْنٌ وَبَرَكَةٌ كَمَا أَنَّ مَنْ طَلَبَهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ الْمَشْرُوعِ يَكْفِيهِ فِي عَدَمِ حُصُولِ مَقْصُودِهِ شُؤْمُ قَصْدِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 2- 3‏]‏، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ أَنَّ مَنْ لَا يَتَّقِي اللَّهَ لَا يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا‏.‏

خَرَّجَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ؛ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْجَهْدَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «اذْهَبْ فَاصْبِرْ»، وَكَانَ ابْنُهُ أَسِيرًا فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ فَأَفْلَتَ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَأَتَاهُ بِغَنِيمَةٍ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «طَيِّبَةٌ» فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، ‏{‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 2‏]‏»‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ‏:‏ إِنَّ عَمِّي طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَقَالَ‏:‏ إِنْ عَمَّكَ عَصَى اللَّهَ؛ فَأَنْدَمَهُ، وَأَطَاعَ الشَّيْطَانَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا فَقَالَ‏:‏ أَرَأَيْتَ إِنْ أَحَلَّهَا لَهُ رَجُلٌ فَقَالَ‏:‏ مَنْ يُخَادِعْ يَخْدَعْهُ اللَّهُ‏.‏

وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْمٍ فِي قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا‏}‏ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 2‏]‏، قَالَ‏:‏ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضَاقَ عَلَى النَّاسِ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ؛ يُنْجِهِ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ وَالْمَعْصِيَةَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا إِلَى الْحَلَالِ‏.‏

وَخَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «ثَلَاثَةٌ يَدْعُونَ اللَّهَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ‏:‏ رَجُلٌ أَعْطَى مَالَهُ سَفِيهًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ‏}‏ ‏[‏النِّسَاء‏:‏ 5‏]‏، وَرَجُلٌ دَايَنَ بِدَيْنٍ وَلَمْ يُشْهِدْ، وَرَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ فَلَا يُطَلِّقُهَا»، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ، وَأَنْ لَا نُؤْتِي السُّفَهَاءَ أَمْوَالَنَا حِفْظًا لَهَا، وَعَلَّمَنَا أَنَّ الطَّلَاقَ شُرِّعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ؛ كَانَ التَّارِكُ لِمَا أَرْشَدَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ قَدْ يَقَعُ فِيمَا يَكْرَهُ، وَلَمْ يُجَبْ دُعَاؤُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ‏.‏

وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ تَدُلُّ بِظَوَاهِرِهَا وَمَفْهُومَاتِهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا؛ فَتَلَا‏:‏ ‏{‏إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ حَتَّى بَلَغَ‏:‏ ‏{‏يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا‏}‏ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 1- 2‏]‏، وَأَنْتَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ، لَمْ أَجِدْ لَكَ مَخْرَجًا‏.‏

وَخَرَّجَ مَالِكٌ فِي الْبَلَاغَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ رَجُلًا أَتَى إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ؛ فَقَالَ‏:‏ إِنِّي طَلَّقْتُ امْرَأَتِي ثَمَانِ تَطْلِيقَاتٍ‏.‏ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ فَمَاذَا قِيلَ لَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قِيلَ لِي إِنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنِّي‏.‏ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ صَدَقُوا، مَنْ طَلَّقَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ؛ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَهُ، وَمَنْ لَبَّسَ عَلَى نَفْسِهِ لَبْسًا جَعَلْنَا لَبْسَهُ بِهِ، لَا تُلَبِّسُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَنَتَحَمَّلُهُ عَنْكُمْ، هُوَ كَمَا تَقُولُونَ‏.‏

وَتَأَمَّلْ حِكَايَةَ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ شَهْوَةَ النِّسَاءِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأَمْسَكَ عَنْهُ؛ فَرُفِعَ عَنْهُ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالْحَجَرِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ طَالِبَ الْمَخْرَجِ مِنْ وَجْهِهِ طَالِبٌ لِمَا ضَمِنَ لَهُ الشَّارِعُ النُّجْحَ فِيهِ، وَطَالِبَهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ قَاصِدٌ لِتَعَدِّي طَرِيقِ الْمَخْرَجِ؛ فَكَانَ قَاصِدًا لِضِدِّ مَا طُلِبَ مِنْ حَيْثُ صَدَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَلَا يَتَأَتَّى مِنْ قِبَلِ ضِدِّ الْمَقْصُودِ إِلَّا ضِدُّ الْمَقْصُودِ؛ فَهُوَ إِذًا طَالِبٌ لِعَدَمِ الْمَخْرَجِ، وَهَذَا مُقْتَضَى مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورُ فِيهَا الِاسْتِهْزَاءُ وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ؛ كَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏الْفَتْح‏:‏ 10‏]‏‏.‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏فُصِّلَتْ‏:‏ 46‏]‏‏.‏

إِلَى سِوَى ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَجَمِيعُهُ مُحَقَّقٌ كَمَا تَقَدَّمَ، مِنْ أَنَّ الْمُتَعَدِّيَ عَلَى طَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ الْمَشْرُوعِ سَاعٍ فِي ضِدِّ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ‏.‏

وَالرَّابِعُ‏:‏ إِنَّ الْمَصَالِحَ الَّتِي تَقُومُ بِهَا أَحْوَالُ الْعَبْدِ لَا يَعْرِفُهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا إِلَّا خَالِقُهَا وَوَاضِعُهَا، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ بِهَا عِلْمٌ إِلَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَالَّذِي يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا أَكْثَرُ مِنَ الَّذِي يَبْدُو لَهُ، فَقَدْ يَكُونُ سَاعِيًا فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا أَوْ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا عَاجِلًا لَا آجِلًا أَوْ يُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا نَاقِصَةً لَا كَامِلَةً أَوْ يَكُونُ فِيهَا مَفْسَدَةٌ تُرْبِي فِي الْمُوَازَنَةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ؛ فَلَا يَقُومُ خَيْرُهَا بَشَرِّهَا، وَكَمْ مِنْ مُدَبِّرٍ أَمْرًا لَا يَتِمُّ لَهُ عَلَى كَمَالِهِ أَصْلًا، وَلَا يَجْنِي مِنْهُ ثَمَرَةً أَصْلًا، وَهُوَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، فَلِهَذَا بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالرُّجُوعُ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَضَعَهُ الشَّارِعُ رُجُوعٌ إِلَى وَجْهِ حُصُولِ الْمَصْلَحَةِ، وَالتَّخْفِيفِ عَلَى الْكَمَالِ بِخِلَافِ الرُّجُوعِ إِلَى مَا خَالَفَهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالْجُمْلَةِ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ مُوَافَقَةِ قَصْدِ الشَّارِعِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ، وَلَكِنْ سِيقَ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمَوْضِعِ فِي طَلَبِ التَّرَخُّصِ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ أَوْ طَلَبَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ فَإِنَّ مِنَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ عَزِيمَةً مَا لَا تَخْفِيفَ فِيهِ وَلَا تَرْخِيصَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ فِي هَذَا النَّوْعِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا مَا فِيهِ تَرْخِيصٌ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ لَهُ تَرْخِيصٌ يَخْتَصُّ بِهِ لَا يُتَعَدَّى‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَمِنَ الْأَحْوَالِ اللَّاحِقَةِ لِلْعَبْدِ مَا يَعُدُّهُ مَشَقَّةً، وَلَا يَكُونُ فِي الشَّرْعِ كَذَلِكَ؛ فَرُبَّمَا تَرَخَّصَ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ، وَلِهَذَا الْأَصْلِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ فِي الْفِقْهِيَّاتِ كَقَاعِدَةِ الْمُعَامَلَةِ بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ، وَغَيْرِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْحِيَلِ، وَمَا كَانَ نَحْوَهَا‏.‏

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ‏:‏ ‏[‏أَسْبَابُ الرُّخَصِ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةِ التَّحْصِيلِ لِلشَّارِعِ‏]‏

أَسْبَابُ الرُّخَصِ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةِ التَّحْصِيلِ لِلشَّارِعِ، وَمَقْصُودُهُ الرَّفْعُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَسْبَابَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَنْعِ انْحِتَامِ الْعَزَائِمِ التَّحْرِيمِيَّةِ أَوِ الْوُجُوبِيَّةِ، فَهِيَ‏:‏ إِمَّا مَوَانِعُ لِلتَّحْرِيمِ أَوِ التَّأْثِيمِ، وَإِمَّا أَسْبَابٌ لِرَفْعِ الْجُنَاحِ أَوْ إِبَاحَةِ مَا لَيْسَ بِمُبَاحٍ، فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ إِنَّمَا هِيَ مَوَانِعُ لِتَرَتُّبِ أَحْكَامِ الْعَزَائِمِ مُطْلَقًا، وَقَدْ تَبَيَّنَ فِي الْمَوَانِعِ أَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةِ الْحُصُولِ وَلَا الزَّوَالِ لِلشَّارِعِ، وَأَنَّ مَنْ قَصَدَ إِيقَاعَهَا رَفَعًا لِحُكْمِ السَّبَبِ الْمُحَرِّمِ أَوِ الْمُوجِبِ؛ فَفِعْلُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَجْرِي فِيهِ التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي الشُّرُوطِ؛ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَسْبَابِ الرُّخَصِ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ‏:‏ ‏[‏إِذَا كَانَتِ الرُّخْصَةُ مُبَاحَةً بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَزِيمَةِ صَارَتِ الْعَزِيمَةُ مَعَهَا مِنَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ‏]‏

إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الرُّخْصَةَ مُبَاحَةٌ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَزِيمَةِ، صَارَتِ الْعَزِيمَةُ مَعَهَا مِنَ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ؛ إِذْ صَارَ هَذَا الْمُتَرَخِّصُ يُقَالُ لَهُ‏:‏ إِنْ شِئْتَ فَافْعَلِ الْعَزِيمَةَ، وَإِنْ شِئْتَ فَاعْمَلْ بِمُقْتَضَى الرُّخْصَةِ، وَمَا عَمِلَ مِنْهُمَا فَهُوَ الَّذِي وَاقِعٌ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ، عَلَى وِزَانِ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ؛ فَتَخْرُجُ الْعَزِيمَةُ فِي حَقِّهِ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَزِيمَةً‏.‏

وَأَمَّا إِذَا فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ فِيهَا بِمَعْنَى رَفْعِ الْحَرَجِ، فَلَيْسَتِ الرُّخْصَةُ مَعَهَا مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّخْيِيرَ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ مَوْجُودٌ مَعَ الْوَاجِبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْعَزِيمَةَ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْوُجُوبِ الْمُعَيَّنِ الْمَقْصُودِ لِلشَّارِعِ، فَإِذَا فَعَلَ الْعَزِيمَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فَرْقٌ، لَكِنَّ الْعُذْرَ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنِ التَّارِكِ لَهَا إِنِ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ الِانْتِقَالَ إِلَى الرُّخْصَةِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ قَبْلُ أَنَّ الشَّارِعَ إِنْ كَانَ قَاصِدًا لِوُقُوعِ الرُّخْصَةِ؛ فَذَلِكَ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، وَالْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ هُوَ وُقُوعُ الْعَزِيمَةِ‏.‏

وَالَّذِي يُشْبِهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْحَاكِمُ إِذَا تَعَيَّنَتْ لَهُ فِي إِنْفَاذِ الْحُكْمِ بَيِّنَتَانِ، إِحْدَاهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَادِلَةٌ، وَالْأُخْرَى غَيْرُ عَادِلَةٍ؛ فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ‏.‏

فَإِنْ حَكَمَ بِأَهْلِ الْعَدَالَةِ؛ أَصَابَ أَصْلَ الْعَزِيمَةِ وَأُجِرَ أَجْرَيْنِ، وَإِنْ حَكَمَ بِالْأُخْرَى فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِعُذْرِهِ بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَهُ أَجْرٌ فِي اجْتِهَادِهِ، وَيَنْفُذُ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُتَحَاكِمِينَ كَمَا يَنْفُذُ مُقْتَضَى الرُّخْصَةِ عَلَى الْمُتَرَخِّصِينَ، فَكَمَا لَا يُقَالُ فِي الْحَاكِم‏:‏ إِنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ، وَالْحُكْمِ بِمَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ؛ كَذَلِكَ لَا يُقَالُ هُنَا‏:‏ إِنَّهُ مُخَيَّرٌ مُطْلَقًا بَيْنَ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَيْفَ يُقَالُ إِنَّ شَرْعَ الرُّخَصِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي‏؟‏ وَقَدْ ثَبَتَتْ قَاعِدَةُ رَفْعِ الْحَرَجِ مُطْلَقًا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وَجَاءَ بَعْدَ تَقْرِيرِ الرُّخْصَة‏:‏ ‏{‏يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ كَمَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ التَّنَاسُلُ وَهُوَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ، وَمَا سِوَاهُ مِنَ اتِّخَاذِ السَّكَنِ وَنَحْوِهِ بِالْقَصْدِ الثَّانِي، مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الرُّوم‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَاف‏:‏ 189‏]‏‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ نَفْسِهِ عَنِ الْمُتَرَخِّصِ تَسْهِيلٌ وَتَيْسِيرٌ عَلَيْهِ، مَعَ كَوْنِ الصَّوْمِ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ لَيْسَتْ بِكَثِيرَةٍ؛ فَهُوَ تَيْسِيرٌ أَيْضًا وَرَفْعُ حَرَجٍ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ فِي الْكُلِّيَّاتِ؛ فَلَا تَجِدُ كُلِّيَّةً شَرْعِيَّةً مُكَلَّفًا بِهَا وَفِيهَا حَرَجٌ كُلِّيٌّ أَوْ أَكْثَرِيٌّ أَلْبَتَّةَ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الْحَجّ‏:‏ 78‏]‏‏.‏

وَنَحْنُ نَجِدُ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ النَّوَادِرِ حَرَجًا وَمَشَقَّةً؛، وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ رُخْصَةً تَعْرِيفًا بِأَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّارِعِ إِنَّمَا هُوَ مُنْصَرِفٌ إِلَى الْكُلِّيَّاتِ؛ فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي مَحَالِّ الرُّخَص‏:‏ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِكُلِّيَّاتٍ، وَإِنَّمَا هِيَ جُزْئِيَّاتٌ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ أَوِ الرُّخْصَةِ‏.‏

فَإِذًا الْعَزِيمَةُ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ كُلِّيَّةً هِيَ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، وَالْحَرَجُ مِنْ حَيْثُ هُوَ جُزْئِيٌّ عَارِضٌ لِتِلْكَ الْكُلِّيَّةِ؛ إِنْ قَصَدَهُ الشَّارِعُ بِالرُّخْصَةِ؛ فَمِنْ جِهَةِ الْقَصْدِ الثَّانِي، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْعَزَائِمُ مُطَّرِدَةٌ مَعَ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ‏]‏

إِذَا اعْتَبَرَنَا الْعَزَائِمَ مَعَ الرُّخَصِ؛ وَجَدْنَا الْعَزَائِمَ مُطَّرِدَةً مَعَ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ، وَالرُّخَصُ جَارِيَةٌ عِنْدَ انْخِرَاقِ تِلْكَ الْعَوَائِدِ‏.‏

أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّا وَجَدْنَا الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ عَلَى تَمَامِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَبِالصِّيَامِ فِي وَقْتِهِ الْمَحْدُودِ لَهُ أَوَّلًا، وَبِالطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ، عَلَى ‏[‏حَسَبِ‏]‏ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ‏:‏ مِنَ الصِّحَّةِ، وَوُجُودِ الْعَقْلِ، وَالْإِقَامَةِ فِي الْحَضَرِ، وَوُجُودِ الْمَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ؛ كَالْأَمْرِ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ مُطْلَقًا أَوْ لِلصَّلَاةِ، وَالنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهَا، إِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَنُهِيَ عَنْهُ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَتَأَتَّى بِهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ، وَوُجُودُ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ عَلَى الْعُمُومِ التَّامِّ أَوِ الْأَكْثَرِ وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِي‏:‏ فَمَعْلُومٌ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ عُلِمَ الْأَوَّلُ، فَالْمَرَضُ وَالسَّفَرُ وَعَدَمُ الْمَاءِ أَوِ الثَّوْبِ أَوِ الْمَأْكُولِ، مُرَخِّصٌ لِتَرْكِ مَا أُمِرَ بِفِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ مَا أُمِرَ بِتَرْكِهِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِيمَا مَرَّ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَلِمَعْنَاهُ تَقْرِيرٌ آخَرُ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ بِحَمْدِ اللَّهِ‏.‏

إِلَّا أَنَّ انْخِرَاقَ الْعَوَائِدِ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏

عَامٌّ، وَخَاصٌّ؛ فَالْعَامُّ مَا تَقَدَّمَ، وَالْخَاصُّ كَانْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ لِلْأَوْلِيَاءِ إِذَا عَمِلُوا بِمُقْتَضَاهَا؛ فَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ عَلَى حُكْمِ الرُّخْصَةِ؛ كَانْقِلَابِ الْمَاءِ لَبَنًا، وَالرَّمْلِ سَوِيقًا، وَالْحَجَرِ ذَهَبًا، وَإِنْزَالِ الطَّعَامِ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْأَرْضِ؛ فَيَتَنَاوَلُ الْمَفْعُولُ لَهُ ذَلِكَ وَيَسْتَعْمِلُهُ؛ فَإِنَّ اسْتِعْمَالَهُ لَهُ رُخْصَةٌ لَا عَزِيمَةٌ، وَالرُّخْصَةُ كَمَا تَقَدَّمَ لِمَا كَانَ الْأَخْذُ بِهَا مَشْرُوطًا بِأَنْ لَا يَقْصِدَهَا وَلَا يَتَسَبَّبَ فِيهَا لِيَنَالَ تَخْفِيفَهَا؛ كَانَ الْأَمْرُ فِيهَا كَذَلِكَ؛ إِذْ كَانَ مُخَالَفَةُ هَذَا الشَّرْطِ مُخَالَفَةً لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ إِذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَرَخَّصَ ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ فِي التَّشْرِيعِ أَنَّ سَبَبَ الرُّخْصَةِ إِنْ وَقَعَ تَوَجَّهَ الْإِذْنُ فِي مُسَبِّبِهِ كَمَا مَرَّ؛ فَهَاهُنَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ لَمْ تُوضَعْ لِرَفْعِ أَحْكَامِ الْعُبُودِيَّةِ، وَإِنَّمَا وُضِعَتْ لِأَمْرٍ آخَرَ، فَكَانَ الْقَصْدُ إِلَى التَّخْفِيفِ مِنْ جِهَتِهَا قَصْدًا إِلَيْهَا لَا إِلَى رَبِّهَا، وَهَذَا مُنَافٍ لِوَضْعِ الْمَقَاصِدِ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ تَعَالَى‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ أَنَّ أَحْكَامَ الشَّرِيعَةِ عَامَّةٌ لَا خَاصَّةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ، لَا خَاصَّةٌ بِبَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ دُونَ بَعْضٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ‏.‏

وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ بِقَصْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِظْهَارِ الْخَارِقِ كَرَامَةً وَمُعْجِزَةً؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ مَعْنًى شَرْعِيًّا مُبَرَّأً مِنْ طَلَبِهِ حَظَّ النَّفْسِ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ‏:‏ إِنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْصِدَ إِظْهَارَ الْكَرَامَةِ الْخَارِقَةِ لِمَعْنًى شَرْعِيٍّ لَا لِحَظِّ نَفْسِهِ، وَيَكُونُ هَذَا الْقِسْمُ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ الرُّخْصَةِ بِأَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ الْقَصْدِ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى ظَهَرَتْ كَرَامَاتُ الْأَوْلِيَاءِ الرَّاقِينَ عَنِ الْأَحْوَالِ، حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ، فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا؛ فَالشَّرْطُ مُعْتَبَرٌ بِلَا إِشْكَالٍ، وَلَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِالْعُمُومِ، بَلْ هُوَ فِي الْخُصُوصِ أَوْلَى‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ الْوَلِيُّ إِذَا انْخَرَقَتْ لَهُ الْعَادَةُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْعَادَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَإِنَّ الَّذِي هُيِّئَ لَهُ الطَّعَامُ أَوِ الشَّرَابُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ عَادِيٍّ مُسَاوٍ لِمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بِالتَّكَسُّبِ الْعَادِيِّ، فَكَمَا لَا يُقَالُ فِي صَاحِبِ التَّكَسُّبِ الْعَادِيّ‏:‏ إِنَّهُ فِي التَّنَاوُلِ مُتَرَخِّصٌ، كَذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي صَاحِبِ انْخِرَاقِ الْعَادَةِ؛ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا النَّمَطِ‏.‏

فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ إِنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَنْقُولَةَ دَلَّتْ عَلَى تَرْكِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا إِيجَابًا، وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُيِّرَ بَيْنَ الْمُلْكِ وَالْعُبُودِيَّةِ؛ فَاخْتَارَ الْعُبُودِيَّةَ، وَخُيِّرَ فِي أَنْ تَتْبَعَهُ جِبَالُ تِهَامَةَ ذَهَبًا وَفِضَّةً؛ فَلَمْ يَخْتَرْ ذَلِكَ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُجَابَ الدَّعْوَةِ فَلَوْ شَاءَ ‏[‏لَهُ‏]‏ لَدَعَا بِمَا يُحِبُّ فَيَكُونُ، فَلَمْ يَفْعَلْ، بَلِ اخْتَارَ الْحَمْلَ عَلَى مَجَارِي الْعَادَات‏:‏ يَجُوعُ يَوْمًا فَيَتَضَرَّعُ إِلَى رَبِّهِ، وَيَشْبَعُ يَوْمًا فَيَحْمَدُهُ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ؛ حَتَّى يَكُونَ فِي الْأَحْكَامِ الْبَشَرِيَّةِ الْعَادِيَّةِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْبَشَرِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُرِي أَصْحَابَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي مُوَاطِنَ مَا فِيهِ شِفَاءٌ فِي تَقْوِيَةِ الْيَقِينِ وَكِفَايَةٍ مِنْ أَزَمَاتِ الْأَوْقَاتِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَبِيتُ عِنْدَ رَبِّهِ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَتْرُكِ التَّكَسُّبَ لِمَعَاشِهِ وَمَعَاشِ أَهْلِهِ، فَإِذَا كَانَتِ الْخَوَارِقُ فِي حَقِّهِ مُتَأَتِّيَةً، وَالطَّلَبَاتُ مُحْضَرَةً لَهُ؛ حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا‏:‏ «مَا أَرَى اللَّهَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ»، وَكَانَ- لِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ شَرَفِ الْمَنْزِلَةِ- مُتَمَكِّنًا مِنْهَا فَلَمْ يُعَوِّلْ إِلَّا عَلَى مَجَارِي الْعَادَاتِ فِي الْخَلْقِ، كَانَ ذَلِكَ أَصْلًا لِأَهْلِ الْخَوَارِقِ وَالْكَرَامَاتِ عَظِيمًا فِي أَنْ لَا يَعْمَلُوا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ الْخَوَارِقُ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَتْمًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ؛ لَمْ يَكُنْ حَتْمًا عَلَى الْأَوْلِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمُ الْوَرَثَةُ فِي هَذَا النَّوْعِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ ‏[‏إِنَّ‏]‏ فَائِدَةَ الْخَوَارِقِ عِنْدَهُمْ تَقْوِيَةُ الْيَقِينِ، وَيَصْحَبُهَا الِابْتِلَاءُ الَّذِي هُوَ لَازِمٌ لِلتَّكَالِيفِ كُلِّهَا، وَلِلْمُكَلَّفِينَ أَجْمَعِينَ فِي مَرَاتِبِ التَّعَبُّدِ؛ فَكَانَتْ كَالْمُقَوِّي لَهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا آيَاتٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، بَرَزَتْ عَلَى عُمُومِ الْعَادَاتِ، حَتَّى يَكُونَ لَهَا خُصُوصٌ فِي الطُّمَأْنِينَةِ؛ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 260‏]‏، وَكَمَا قَالَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِرَاقَ مُوسَى لِلْخَضِر‏:‏ يَرْحَمُ اللَّهُ أَخِي مُوسَى، وَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ فَائِدَتَهَا؛ كَانَ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى حُظُوظِ النَّفْسِ كَالصَّدَقَةِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِ؛ فَهُوَ فِي التَّنَاوُلِ وَالِاسْتِعْمَالِ بِحُكْمِ الْخِيَرَةِ؛ فَإِنْ تَكَسَّبَ وَطَلَبَ حَاجَتَهُ مِنَ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ؛ صَارَ كَمَنْ تَرَكَ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ وَتَكَسَّبَ فَرَجَعَ إِلَى الْعَزِيمَةِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ قَبِلَ الصَّدَقَةَ؛ فَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْقَوْمَ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَأَجْرَى الْعَوَائِدَ فِيهَا تَكْلِيفًا وَابْتِلَاءً، وَإِدْخَالًا لِلْمُكَلَّفِ تَحْتَ قَهْرِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، كَمَا وَضَعَ لَهُ الْعِبَادَاتِ تَكْلِيفًا وَابْتِلَاءً أَيْضًا؛ فَإِذَا جَاءَتِ الْخَارِقَةُ لِفَائِدَتِهَا الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا كَانَ فِي ضِمْنِهَا رَفْعٌ لِمَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْكَسْبِ وَتَخْفِيفٌ عَنْهُ، فَصَارَ قَبُولُهُ لَهَا مِنْ بَابِ قَبُولِ الرُّخَصِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ رَفْعًا لِمَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ ‏[‏بِالْكَسْبِ وَتَخْفِيفًا عَنْهُ‏]‏ فَمِنْ هُنَا صَارَ حُكْمُهَا حُكْمَ الرُّخَصِ وَمِنْ حَيْثُ كَانَتِ ابْتِلَاءً أَيْضًا فِيهَا شَيْءٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ تَنَاوُلَ مُقْتَضَاهَا مَيْلٌ مَا إِلَى جِهَتِهَا، وَمِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْعَزَائِمِ فِي السُّلُوكِ عُزُوبُ أَنْفُسِهِمْ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ، كَمَا كَانَتِ النِّعَمُ الْعَادِيَّةُ الِاكْتِسَابِيَّةُ ابْتِلَاءً أَيْضًا، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ جِهَةَ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِنَّمَا أَخَذُوهَا مَآخِذَ الرُّخَصِ كَمَا تَبَيَّنَ وَجْهُهُ، فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ؛ فَتَأَمَّلْ كَيْفَ صَارَ قَبُولُ مُقْتَضَى الْخَوَارِقِ رُخْصَةً مِنْ وَجْهَيْنِ‏!‏ فَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يَسْتَنِدُوا إِلَيْهَا، وَلَمْ يُعَوِّلُوا عَلَيْهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، بَلْ قَبِلُوهَا وَاقْتَبَسُوا مِنْهَا مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُعِينَةِ لَهُمْ عَلَى مَا هُمْ بِسَبِيلِهِ، وَتَرَكُوا مِنْهَا مَا سِوَى ذَلِكَ؛ إِذْ كَانَتْ مَعَ أَنَّهَا كَرَامَةٌ وَتُحْفَةٌ؛ تَضَمَّنَتْ تَكْلِيفًا وَابْتِلَاءً‏.‏

وَقَدْ حَكَى الْقُشَيْرِيُّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى‏:‏ فَرَوَى عَنْ أَبِي الْخَيْرِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ بِعَبَّادَانَ رَجُلٌ أَسْوَدُ فَقِيرٌ يَأْوِي إِلَى الْخَرَابَاتِ قَالَ‏:‏ فَحَمَلْتُ مَعِي شَيْئًا وَطَلَبْتُهُ، فَلَمَّا وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَيَّ تَبَسَّمَ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، فَرَأَيْتُ الْأَرْضَ كُلَّهَا ذَهَبًا تَلْمَعُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ هَاتِ مَا مَعَكَ، فَنَاوَلْتُهُ، وَهَالَنِي أَمْرُهُ وَهَرَبْتُ‏.‏

وَحُكِيَ عَنِ النُّورِيِّ أَنَّهُ خَرَجَ لَيْلَةً إِلَى شَاطِئِ دِجْلَةَ؛ فَوَجَدَهَا وَقَدِ الْتَزَقَ الشَّطَّانِ، فَانْصَرَفَ وَقَالَ‏:‏ وَعِزَّتِكَ لَا أَجُوزُهَا إِلَّا فِي زَوْرَقٍ‏.‏

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى الْبَصْرِيِّ قَالَ‏:‏ أَتَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلٍّ، فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ لَوْ سَأَلْتَ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْكَ الرِّزْقَ لَرَجَوْتُ أَنْ يَفْعَلَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، ثُمَّ أَخَذَ حَصًى مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْعَلَهَا ذَهَبًا فَعَلْتَ، فَإِذَا هِيَ وَاللَّهِ فِي يَدِهِ ذَهَبٌ، فَأَلْقَاهَا إِلَيَّ وَقَالَ‏:‏ أَنْفِقْهَا أَنْتَ؛ فَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِلْآخِرَةِ‏.‏

بَلْ كَانَ مِنْهُمْ مَنِ اسْتَعَاذَ مِنْهَا وَمِنْ طَلَبِهَا، وَالتَّشَوُّفِ إِلَيْهَا، كَمَا يُحْكَى عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبَسْطَامِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الْعَادَاتِ مِنْ حَيْثُ شَاهَدَ خُرُوجَ الْجَمِيعِ مِنْ تَحْتِ يَدِ الْمِنَّةِ، وَوَارِدَةً مِنْ جِهَةِ مُجَرَّدِ الْإِنْعَامِ؛ فَالْعَادَةُ فِي نَظَرِ هَؤُلَاءِ خَوَارِقُ لِلْعَادَاتِ؛ فَكَيْفَ يَتَشَوَّفُ إِلَى خَارِقَةٍ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ، وَمِنْ تَحْتِهِ مِثْلُهَا، مَعَ أَنَّ مَا لَدَيْهِ مِنْهَا أَتَمُّ فِي تَحْقِيقِ الْعُبُودِيَّةِ كَمَا مَرَّ فِي الشَّوَاهِدِ، وَعَدُّوا مَنْ رَكَنَ إِلَيْهَا مُسْتَدْرَجًا، مِنْ حَيْثُ كَانَتِ ابْتِلَاءً لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا آيَةً أَوْ نِعْمَةً‏.‏

حَكَى الْقُشَيْرِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الشَّرَفِيِّ قَالَ‏:‏ كُنَّا مَعَ أَبِي تُرَابٍ النَّخْشَبِيِّ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، فَعَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ إِلَى نَاحِيَةٍ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا‏:‏ أَنَا عَطْشَانُ‏.‏ فَضَرَبَ بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ، فَإِذَا عَيْنُ مَاءٍ زُلَالٍ؛ فَقَالَ الْفَتَى‏:‏ أُحِبُّ أَنْ أَشْرَبَهُ بِقَدَحٍ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ فَنَاوَلَهُ قَدَحًا مِنْ زُجَاجٍ أَبْيَضَ كَأَحْسَنِ مَا رَأَيْتُ فَشَرِبَ وَسَقَانَا، وَمَا زَالَ الْقَدَحُ مَعَنَا إِلَى مَكَّةَ؛ فَقَالَ لِي أَبُو تُرَابٍ يَوْمًا‏:‏ مَا يَقُولُ أَصْحَابُكَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي يُكْرِمُ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ‏؟‏ فَقُلْتُ‏:‏ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا إِلَّا وَهُوَ يُؤْمِنُ بِهَا، فَقَالَ‏:‏ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا فَقَدْ كَفَرَ، إِنَّمَا سَأَلْتُكَ مِنْ طَرِيقِ الْأَحْوَالِ، فَقُلْتُ‏:‏ مَا أَعْرِفُ لَهُمْ قَوْلًا فِيهِ، فَقَالَ‏:‏ بَلْ قَدْ زَعَمَ أَصْحَابُكَ أَنَّهَا خُدَعٌ مِنَ الْحَقِّ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ إِنَّمَا الْخُدَعُ فِي حَالِ السُّكُونِ إِلَيْهَا فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقْتَرِحْ ذَلِكَ وَلَمْ يُسَاكِنْهَا فَتِلْكَ مَرْتَبَةُ الرَّبَّانِيِّينَ‏.‏

وَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهَا فِي حُكْمِ الرُّخْصَةِ، لَا فِي حُكْمِ الْعَزِيمَةِ؛ فَلْيُتَفَطَّنْ لِهَذَا الْمَعْنَى فِيهَا؛ فَإِنَّهُ أَصْلٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِيهَا مَسَائِلُ‏:‏ مِنْهَا أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ لِلْقَوْمِ، وَالْأَحْوَالُ مِنْ حَيْثُ هِيَ أَحْوَالٌ لَا تُطْلَبُ بِالْقَصْدِ، وَلَا تُعَدُّ مِنَ الْمَقَامَاتِ، وَلَا هِيَ مَعْدُودَةٌ فِي النِّهَايَاتِ، وَلَا هِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَهَا بَالِغٌ مَبْلَغَ التَّرْبِيَةِ وَالْهِدَايَةِ، وَالِانْتِصَابِ لِلْإِفَادَةِ، كَمَا أَنَّ الْمَغَانِمَ فِي الْجِهَادِ لَا تُعَدُّ مِنْ مَقَاصِدِ الْجِهَادِ الْأَصْلِيَّةِ، وَلَا هِيَ دَلِيلٌ عَلَى بُلُوغِ النِّهَايَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏